كل استغاثة تطلبك، وكل اعتداء يقصدك
الترويع الذي يعيشه الناس في سوريا، أفرغ ذهني من أي مفهوم سياسي يخص وطني. أتابع نشرات الأخبار بذهول.. صارت سورية أمراً شديد الذاتية، كأنه مسؤوليته.
ومع عبء هذا الشعور! فإن كل ما أفعله هو أن أطمئن على أمي وأختي وأختي الثانية وأخي، وأولادهم، هل هم أحياء؟ إذن الحمد لله.
ما إن تمر صورة ذبح أوقتل أو تعذيب، حتى أسارع لأضغط زر الكمبيوتر، كي تمضي الصورة من أمامي، الصورة التي لا تحتملها إرادتي، ولايطيقها خيالي، ولا أريد أن أكتبها، كي لا أوجع قارئاً.
فيلم عن صغير لم يتم السنة من عمره، خرج من تحت ركام القصف، يتلفت ويعوي مذعوراً. يداهمني إحساس بالمهانة، كيف أن أطفالاً يستغيثون ولا يجدون من يغيثهم؟ أشعر أن ذرات الهواء تبكيه. ولكن كل ما أفعله في ستوكهولم، هو أن أقوم وأحتذي حذاء مطاطياً، أفتح الباب، وأركض... مع دمع ولهاث ورغبة بالهتاف. وفي أحيان، أقرر أن علي أن أقاوم الألم وأصمد، فأرجع إلى البيت، وأجبر نفسي، فأدير موسيقا شرقية وأستدعي فرحاً متخيلاً.
حين أرصد الحال خلال هذه السنة، أجد أن الحياة لم تكن عيشاً طبيعياً.. ومع ذلك أقاوم وأحاول أن لا أفقد هدوئي، وأتشبث، بمرارة، بالحياد أثناء الكتابة.
أكتب منذ 18 عاماً، وما أشعر به خلال هذه السنة، أننا لم نفعل أي شيء، إذ ما معنى أن نقدم روايات وكتابة، ونحن نشهد مجازر تلو المجازر؟
لو أني أكثر شجاعة، والآخر أيضاً أكثر شجاعة والثالث أكثر شجاعة، كنا نحن السوريون بحال أقل سوءاً، وأفترض أن خوفي وخوفه وخوفنا، ما يجعلنا في مستوى متدن عن الكرامة الإنسانية كسوريين.. لكن في الوقت نفسه، أفكر أن الأمر ليس خوفاً، فالعدو معقد وغريب في حقده، ولا أحد يعرف أي جرأة وأي حجم شجاعة، يحتاج الأمر لمواجهته، هذا العدو يقتل، يقطَع، يعذب، يغتصب، يفعل هذا فقط، بسهولة، وكل الوقت، والأهالي لا يستطيعون إلا دفن قتلاهم، الأهالي لا ينحدرون ولا يمارسون شيئاً من هذه الأفعال، وإن وُجد شباب حملوا سلاحاً فإنهم فعلوا، من شدة الظرف وليس عن سابق عزم وتصميم.
أحاول أن أجد سلوكاً قد ينفع مع هذا العدو، لا أجد، نحن حتى لم نعد نعرف كيف نواجهه.
حين أنصح أن نرضخ، لا أعرف كيف نرضخ؟ ولا أعرف كيف نتشجع! وكيف نتدبر هذا الأمر! ماهذا العدو؟ وأي غايات له؟ إذا كان لا يتردد عن ذبح الأطفال بالسكين.
أي معنى للتظاهر من أجل الحرية؟ ألم يعرف كل العالم أن هذا الشعب ساخط؟ أليس المضي في ذات السبيل من أجل شعار الحرية جهل وهيستيريا؟
أراقب سكان العالم، وجوه محبة ولطيفة، ونحن نحب وجوه الناس ونتمنى الخير لأهل الأرض، ولكن، لماذا لا يهب العالم لنجدتنا؟ ولماذا لا يكف العالم عن صنع وتصدير الأسلحة لهؤلاء؟
أكتب الآن هذه الكلمات، وقبل قليل فقط، علمت عبر الهاتف من حماة أن أمي في المشفى، أصيبت بجلطة قلبية، ونحن وأمي شهدنا أحداث ومجازر حماة 1980ـ1982، حين هدمت أكثر أحياء المدينة عراقة، واقتيد آلاف الأبرياء من بيوتهم وقتلوا ودفنوا ومازالوا في مقابر جماعية. الآن حين وقعت أحداث 2011 أضاعت أمي جزءاً من ذاكرتها، وباتت أحياناً حين أستطيع التقاط الخط والتحدث إليها، باتت تناديني باسم آخر. لم تتذكر أختي أن تخبرني عن صحة أمي، كانت تحت تأثير الصعوبات التي واجهتهم في الطريق إلى المشفى، تهديد في كل لحظة، مع أن المسافة بين بيت أمي والمشفى شارعان فقط.
طرقات ومدن وجحيم..
أرسل لي ابن أختي، يرجوني أن أطلب من أمه أن لا ترسله إلى المدرسة، لأنه خائف جداً، لقد سمع أنهم يختطفون الأولاد ويقطعون أصابعهم. هذا في مناطق معينة من سوريا، بينما في مناطق أخرى في سوريا ذاتها، استقرار ومال مسىلوب من الشعب، وأسر عديدة بادرت منذ أول يوم بإرسال ذكورها، كي يهاجموا ويهددوا ويقتلوا سكان المناطق المحتجة، في سلوك، لا يمكن ان يصنفوا فيه أنهم من ذات البلد.
أتابع كل مقال وكل تعليق، ولا يزيدني الأمر إلا خيبة، المثقفون في سوريا، إما أنهم تابعون لجهات مستفيدة من هذا الوضع أو أنهم مهددون أو مهدودون. والساسة لا ينيرون لنا درباً، وإعلامنا لا يخدم مواطناً ولا يعين ضحية لحظة الحاجة.
أكتب حالة على الفيس بوك، آمل منها أن تمتص شيئاً من عدوان أحد، ولكن سرعان ما تُكتَب حالة مقابلة، أو نصاً معاكساً لنصي يبشر بالموت ويحض على الدماء، قتلاً واقتتالاً أو ما يسمى استشهاداً. ثم أقرأ أن مدينتي تقصف، فيتهيأ لي أن الكتابة تؤذي الناس ولا تفيد، وأن علينا أن نصمت، وحين أصمت، أفكر أننا بالصمت، نتيح للبشاعة أن تنتشر، وللقاتل أن يستفرد بالضحية، وينتهي منها ليتناول التي تليها، فعلينا إذن أن لا نصمت.. وهكذا.
يُعتقل صديق، فأتردد، هل أرسل أطمئن عليه؟ لا..! ربما هذا يضاعف عليه المعاناة، ربما علي أن أنكفئ، ولكن بالانكفاء نترك صديقنا يواجه صعوباته وحيداً ومن دون دعم أصدقائه. دوامة من التفكير والقلق وأعلم، أنه ربما يتخللها الأوهام، منغمسون نحن في الألم والاحساس بالمهانة.
في كل دقيقة، تسقط ضحية، أو تجلد ضحية أو يهان كهل أو يذبح طفل أو تغتصب بنت، أشعر في كل لحظة، أن هناك من يستغيث، وأن كل استغاثة تطلبني، وكل اعتداء يقصدني أنا بالذات، فيما أنني شخص عادي، وربما لا أخطر ببال أحد هناك.
خالية الوفاض.. من يعتقد أنه يؤدي ماعليه في هذا الجحيم؟
لو أن الشجر والطيور الطيبة تنطق، سوف تستغيث، فالآثار والبيوت والمواشي والتراب أيضاً يجري عليهم مايجري على السكان.
أعرف أن أكتب وأربي ابني، ولكن هذا لا ينجي أحداً. ليس لدي علاقات بوزراء ولا رؤساء ولا سياسيين لا هنا ولا هناك. وفي الأصل، لا أفهم حتى الآن سبب إنشاء الأمم المتحدة ومجالس الأمن ومؤسسات حقوق الإنسان، إذا كانوا لا ينجدون أطفالاً وبشراً يذبحون بشكل منظم خلال أكثر من 380 يوماً.
أتصل هنا، أتصل هناك، ماذا يمكن أن يواجهني إن سافرت إلى سوريا؟ حقي أن أكون في سوريا، بيتي وبيت أبي. تقتحمني رغبة تشبه رغبات ابني حين يلح على شيء، أصبح مغلقة على هذه الرغبة، تأتيني أجوبة مستنكرة من الأهل، وبعضها استغراب لهذا الإلحاح، يعتبرونه ترفاً، وأن علي أن أحمد الله على الأمان، فهم بحال لا يستطيعون أن ينشغلوا بي إن اعتقلت من المطار، حيث يصبح من المتعذر العثور علي بين فروع المخابرات، ثم يضيفون بنزق: الطرق خطرة ولا نستطيع حتى إحضارك من المطار.
أعيد قراءة ما سبق الآن.. شعوري، بنت صغيرة، كتبت وتتوعد بالكتابة، خططها للمستقبل هي الكتابة! سلاحها كلمات، فيما النظام على مدى عقود، يمضي بإصرار منظم في طريق واحد، تضليل الشعب أولاً ثم القتل والتعذيب وتحقير الإنسانية.