نتفٌ من ذاكرة مكلومة
13 أبريل 1975 (بداية الحرب الأهلية).
في كل ذكرى، أتمنّى لو أسأل كلَّ لبناني أين كان يوم 13 نيسان/أبريل 1975 و ما كانت حياته حينذاك، قبل سويعات من انفجار حرب أهلية يُجمع اللبنانيون على عدم انتهائها، إذ يدركون أن أمراء الحرب أوقفوا الحرب بقرار إقليمي ودوليّ، أصدروا عفوا عاما بحق أنفسهم، وجلسوا في السلطة من دون أن يتلوا أي فعل ندامة.
يوم 13 نيسان 1975 كان يوم أحد. أذكر أنه كان عرس إحدى بنات العمومة، في كنيسة غدت خط تماس يقسم بين ما سُمّي بيروت الغربية والشرقية. حادثة البوسطة لم تكن بعيدة، وخيط الدم الذي بدأ نزفه الطويل من هناك، أتخيّله سائرا نحو المذبح حيث وقفت العروس، مبللا أطراف طرحتها الطويلة البيضاء. كان عرسها وكأنّه العرس الأخير قبل أن تعتم الدنيا وتدخل البلاد في ليل طويل. لقد سمّمت الحربُ التي عشتُ ثلثيها حاضرةً، وثلثها الأخير غائبةً، ذاكرتي. أحداثها تتخالط وتنزلق، تنقسم وتتطاير، كالزئبق والنفناف. لا اتّساق في أحداثها ولا منطق. متقطّعة، متضاربة، متنافرة، ينبغي إخراجها من ذاكرتي لإعادة ترتيبها، والاحتكام إلى مراجع من خارجها تجعلها تبدو وكأنها دارت خارجي، على الورق، كما يحصل مع كل الحروب التي علّمتنا إياها كتبُ التاريخ. ما أذكره فقط هو ذاك الخوف الذي كان يتحرك في بطني ويشدّني لأعود أدراجي كلما خرجت لأمارس ما يشبه الحياة؛ الاختناقَ وإحساسَ الأسر ومذاقَ الخسارة تحت اللسان؛ المرات التي كدتُ أُقتل فيها على حاجز أو برصاصة قنّاص أو بانفجار أخطأني ببضعة أمتار. أجل، أريد أن أذكر تلك السنوات العشر الضائعة التي لا زلتُ الى اليوم أبحث عنها ولا أعرف أين أجدها، أو كيف أملأ الفراغ أو الثغرة الهائلة التي خلفتْها في عمري؛ سنوات الغربة القاسية وتهمة أن تكون لبنانيا كلما أردت تجديد أوراق إقامتك؛ والذعر. الذعر في كل مرة تسمع عن انفجار، فتتعلق روحك بخط الهاتف بانتظار أن يردوا عليك من الطرف الآخر قائلين إن أحدا منهم لم يُصَب، والى الجحيم البقية، إلى الجحيم العالم كله، إلى الجحيم هذي الحياة.
أتفرّج اليوم على ما يجري في العالم من حولي، ولا أدري إن كنت قد خرجتُ فعلا من المشهد المأسوي ذاك، أم ما زلت فيه. ثمة ما يبقيني على مسافة قريبة جدا مما جرى منذ واحد وأربعين عاما ! أكاد لا أصدق كل هذه المسافة الزمنية، ومع ذلك، كل هذا القرب الذي ما زال يربطني إلى تلك الحرب وكأنها حمولتي التي لا فكاك لي منها، ولن تفارقني ما حييت.
عشية 17 أكتوبر 2019 (بداية الانتفاضة اللبنانية)
وإذ تسقط تلك الوريقة الصفراء على رأسك، تتذكّر أن في بيروت بعدُ شجرٌ ناجٍ من تلك حرائق الصيف الآثمة التي أتت على مناطق بأكمله. وإذ ترى في جذوعه المائلة آثار ذاكرته المثخنة، تسارع إلى الصعود، عاليا، عاليا، إلى حيث ينسى الشجرُ نصفه السفلي، مكتفيا بما يتفلّت من قانون الجاذبية ليعيد إليه بعضا من طبيعته الخضراء.
وإذ تباشر الحرارة انخفاضها التدريجيّ في الخريف- وإن شاكستْ أياما لسوء مزاج أو حبّا بالمناكفة - مرسلة إليك برودة طارئة ومشتهاة، تدرك أن المدينة العاتية دخلت خريفها الأسبق وأنها، برغم كل ما نكسته من وعود، أبقت على عهدها بمنحك فصولها الأربعة، بالتمام والكمال. أجل هو خريف بيروت، فصل لملمة الأطراف، وخلوّ الأمكنة المأهولة، وشغور الشطآن، وعودة البحر إلى وحشته الزرقاء.
وإذ تغسل المطرة الأولى روحَك من غبش الرؤية، ماسحةً زجاجَ نظّارات كآبتك، وعابقة بشذى تربة وشوشها الماء، تودّع وقاحة الصيف مشرّعا ذراعيك لسماء متموّجة، متدرّجة، موشّحة بالبياض وبتشكيلات أجنحة حمامٍ يلوب على نفسه، في عَوْدٍ أبدي لا يُنتقص ولا يكلّ. هكذا، أياما، حتى تبدأ السماء بالانخفاض، قليلا، رويدا، فتشرّع لها ذراعيك، توّاقا إلى اكتمال لحظة الوصل عندما ستنزل إليك، وتكاد تتمدّد عليها، فيما أنت شاردٌ في خساراتك أمام نافذة مطفأة.
وإذ يبلغ خريفُ لبنان جبالَه والمرتفعات، ينفجر كبركان يرمي بألوانه الترابية والبرتقالية والصفراء، كيفما اتفق، فوق المدى، ولتصمدْ القلوبُ الضعيفة الحانية ساعتئذ، وليسقط العاشقُ المهجور، ولتتحملّ رطوبة التراب كل تلك الغواية، كل ذلك المجون. يصير النور مسالما، سكّريا، وقد أنضجته شمس الصيف، وينزل الضباب ملتاعا، مشتاقا، حاضنا ومقبّلا أسفلتَ الطرقات. تكحّ المدافئ دخانها المتعثر، ويبرد القرميدُ الأحمر، وثمة ذهولٌ بنفسجي الهوى يستولي على الأفق وعلى سفوح الجبال. زهري فبنفسجي فأزرق فكحليّ، إلى أن تظهر قبّةُ السماء، قبّةً فعلا، ومرصّعة حقيقةً بالماس.
على عكس جبالنا، يدخل خريف لبنان مُدنَـنا على خفر وحياء، متردّدا، مأسورا، عاجزا عن الكلام. فالحجر كثير، والأسفلت كثير، والبشر على عجلة، والهواء مختنق بسخام السيارات. والمدينة المنقسمة على ذاتها، تصمّ الآذان نعياً وشكوىً وتأففا وشجارا ونفاقا وادّعاء وغلاء أسعار. هنا، هو خريف الفقر والجيب المثقوب، والحسابات الناقصة التي تُكرَّر وتعاد، والأقساط المرتفعة، والبطالة التي بلغت نسبة مخيفة، وأحلام الهجرة، وهجرة الأحلام... خريف البلاد الخاوية التي تغصّ بأهلها وعمّالها الأجانب ونازحيها، بقدر ما هو خريف الكراهية، والتحريض الطائفي والمذهبي، والعقول النتنة، والأيدي الآثمة...
لا يدرك خريفُنا عمقَ انتمائنا إليه. لا يعرف كم أننا هو وكم أنه مزاجنا الحقيقي، عزوتنا حين يغادرنا الآخرون، ومرآتنا عندما نقف أمام موائدنا المستهلكة وأكوابنا الفارغة وأعمارنا الماضية التي لا تتوقف عن المضيّ.
4 آب 2020.
بعد انفجار قلب بيروت، من أين أدخل في الكتابة ؟ من أين أدخل في المعنى الضائع، في الكلام المحروق ؟
بعد 4 آب.
حين تغرق في كنبة من الخواء، فلا تطاوعك يدك ولا تذعن لك أفكارك. حين لا تشعر بالرغبة في شيء، ولا يشعرك شيءٌ بشيء. عندما تكون في الدرجة صفر من العيش وتهرب العبارة الملعونة منك كسمكة. عندما تصير أبكم أصمّ وتغادرك الحياةُ متعالية، أنفة، قبل أن تصفق وراءها الباب. عندما تخرج من مسام جسدك وتنسلّ مبتعدا كمجرم لن يعود على خطاه، جلّ ما تأمله هو أن تَنْفُق كما ينفق الوقتُ، وتختفي كفقاعة صابون.
أحقا لا عزاء؟ كيف نتعزّى إذاً عن ضياع هذا كلّه؟ كيف نواسي ذواتِنا ونحن قد أمضينا أيّامَنا حروبـًا وغربةً وخوفًا ومرارات. أجل، وقد بدأ العمرُ يوصد أبوابَه واحدًا تلو الآخر، دافعا إيّانا إلى المخرج الأخير. نستعدّ للرَّحيل، مُدركين أنّ جعبتنا من الزّاد فارغة، وألّا شيء مبهجًا نحمله معنا. فقط طفولات مقضومة، وأرواح منقوصة، وحيوات مرمّدة تمضي هباءً إذ يندثر غبارُها في الهواء.
أيها الإخوة، لقد أحببنا بلادًا لم تُحببنا، حملناها ولم تفعل سوى صدّنا وإبقائنا عراةً خارجها. تهافتنا إلى أحضانها فما غسلتنا، وما أطعمتنا، وما أهدتنا لا شجراً ولا بحرًا. أيها الإخوة، تقبّلوا ألّا عَزاء، لأن الخديعة باتت هي المَخْدَع، والمرارة هي اللّحاف. لا تنظروا إلى سماء هذي البلاد، فليس فيها رجاء، ولا تخاطبوا أرضَها فهي الهوّة والمصيدة. جثثت قتلاها تغطّي السهولَ الواطئة، المعدن يلمع تحت أشعّة الشمس، والدمُّ كثير.
خَلَفَ جدّي لأبي تركةً من حكايا ووصايا في أصناف العباد وحبّ البلاد. وخلف أبي لي، تركة أبيه وأضاف إليها مسبحةً من عقيق، وبروازًا من خشب الأرز، وقبرا في أرضٍ بهيّة مزروعة بالشجر والحشيش. نحن، ماذا سنترك لأولادنا الذين ما أن نلدهم حتى نعلّمهم قواعدَ النجاة وقوانينَ الهرب إلى البعيد؟ ألسنا أبناء أولئك الأهل الطيّبين، فلمَ ترانا لا ننجب إلا أولادًا من ورقٍ وقماشٍ، يطيرون كيفما طيّرتهم الريح، وإذ نخرج من كوابيسهم، لا نجدهم على مقربة، كأننا ما ولدناهم في البيوت حيث لم تُبقِ العاصفةُ على سقوفٍ أو جدران.
يأتيني والدي في الحلم، عابسًا وراء سُمرته التي تًشبه نحاسَ المغيب. يسألني ماذا أتيتُ ولمَ اجتمعتْ من حولي خيوطُ العناكب وكيف تركتُها هكذا تلتفّ من حولي حدَّ الاختناق. تسيل دموعي وأتمنّى لو تمتد يدُه إليّ، فأجدني جالسةً فوق فخذيه ألاعب شامتَه الكبيرة التي في زاوية فمه اليسرى. لكنّ أبي ميت، وأنا مدركة أنه إنما يخاطبني من الغياب. أنا لم أفرّط في تركتك يا أبي، أقول له، هم من اجتمعوا عليّ، وسلبوني عزّتي، وقوّتي، مردّدين كأنهم من الجريمة براء: البلاد تحتضر. البلاد تنهار. البلاد تزول...
في وداع البلاد... مرّة أخرى.
لا أريد أن أفهم ما يجري. بل لأني فهمتُ، أريد أن أدفن رأسي في زاوية لكي أفرغَ جسدي من الدموع. لا تزيدوا عليّ بأن تحاولوا إقناعي، فأنا، وبعد ما آلت إليه الأمورُ، قد بتُّ مدركة تماما أن الأمر قد انتهى. أجل، لقد أُسقط في أيدينا وأُطبق علينا. أجل، لقد انتهى أمرنا، فلا حل قريب يلوح في الأفق، ولا من يُشفق أو يُبطئ هبوطَنا السريع إلى القاع.
هربتُ من لبنان في أثناء الحرب الأهلية بعد ما ذقتُ منها الأمرّين خلال عشر سنوات. مُراهَقة مقصوفة وعُمر مبتور وخوفٌ ويأس وحصار وسباحة عكس التيار ورغبة في الانفجار والاضمحلال أكثر من مرة. ثم هربتُ من باريس بعد كلّ ما راكمتُ فيها خلال ربع قرن من غربةٍ وتعب السَّعي إلى تحصيل الرزق والتعلّم، ورتقِ حياة مهترئة ووحدةٍ وسوء فهم أزليّ.
الآن، لستُ أدري إلى أين أتوجّه مجدّدا وعمري ما عاد يسمح لي ببدايات جديدة أو بتوليد الأمل من القديم. لكن، هناك ابنتي، ابنة العشر سنوات! وهناك الأرض القاحلة والمياه الشحيحة والأصدقاء الذين غادروا أو دُفنوا أحياء في الرمال المتحرّكة ولم يجدوا سبيلا إلى الخروج. هذا ليس مجازا. هذه ليست صورا أو تخيلات. هذه حقائق ملموسة، انظروا إليها وستجدونهم بأفواه ملأى بالتراب، غرقى في مستنقعات آمالهم الذبيحة. هذي بلاد ملعونة تورث لعناتها من جيل إلى جيل، وأنا لا أريد أن أورث ابنتي هذه اللعنة. أريد أن أهرب بها إلى الأقاصي حيث تتعلّم لغةً أخرى وتخترع انتماءً آخر، فلا تنتمي لأرضٍ ولا تنبت لها جذور وتبقى هكذا طافية دوّارة مثل ذرّة غبار. أصلا، لقد أسلمت بلادُنا الروحَ ولا وعد بقيامة أو أمل بانبعاث. اجتمع عليها أبناءُ السّوء حتى خنقوها، وأبناء السوء كثر بل أنهم أبناؤها جميعا وأشقاؤها والجيران. قتلوها قتلا فماتت موتا، وهاهم مستمرون في تمزيق ثيابها وتقاسم جثتها واقتلاع أعضائها.
شحُّ دولار وانهيارٌ وحصارٌ ودويلة غاشمة تحكم الدولة وسلاحٌ موضوع على الرقاب، وحروبٌ في الجوار وفقرٌ وانهيارٌ اقتصادي وقانون عقوبات ومجاعة قريبة وكورونا و... لا، لا تشرحوا لي أيًا من هذا. اصمتوا ودعوني أبكي البلادَ التي منها أبي وآباؤه وأجدادُه، والتي، برغم كل شيء، لم تبدُ لي يوما كذبة، حتى أني وبرغم ما أنزلته بي من عذاب وهوان، كنت لا أزال أحبها وأنتمي إليها وأحلم بها، وأخاف عليها بقدر ما أخاف منها، وأرغب بتصديقها وبدعمها وبالبقاء فيها. في 17 تشرين (أكتوبر)، صدّقتُ بعد يأس، بل صدّقنا جميعا أننا أصحاب وزنٍ وأنّ الأمل ممكن والثورة والتغيير. ثم جاءهم ذاك الوباء اللّعين على صحن من فضّة، فعادوا يمسكون برقابنا ويشدّون الخناق. لصوص ومجرمون هم، وليسوا سياسيين، لا مشروع لديهم، لا لغة، لا أفق. مرتزقة وعسس وسفلة، ولا أستثني أحدا. نحن "بومبي" القرن الواحد والعشرين وقد دُفنتْ المدينة تحت حمم البركان. سوف نبقى مكانا منسيا، وإن أُشير إلينا، فلكي يُتّعَظَ بنا وبأجسادنا المتفحّمة المتصلّبة قهرا وجوعا ومذلّة.
لا أريد أن أفكّر. أريد أن أحشر رأسي في حَجَرٍ وأن أبكيَ. لم يعد الوقتُ يتسّع، كرة النار تقترب، والباقون منّا، مهما فعلوا، لن يتمكّنوا من الفرار...
قلبي ثقيلٌ والليلُ طويل.