تحولات الثورة السورية
بعد سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، قال مبارك أن مصر تختلف عن تونس، ولكنه سقط في زمن قياسيّ. وقال القذافي "ملك ملوك أفريقيا" كما كان يحب أن يسمي نفسه، ان ليبيا تختلف، ولم يكن من اختلاف سوى في أنه أصبح مجرم حرب لم يتورع عن قصف المدن الليبية بصواريخ غراد العمياء، وفي النهاية يلقى القبض عليه في قنوات الصرف الصحي، وتطوى آخر صفحة من تاريخ الطاغية المجنون.
ومثلهما قال الرئيس اليمني، وكذلك الرئيس السوري الوريث، الذي تحوّلت معه سوريا من جمهورية اسماً إلى مَلَكية استبداية مضموناً، ولم أكن لأكون ضده لو حوّلها إلى مَلكية تحترم نفسها وحرية شعبها.
ديكتاتوريات عربية متشابهة ومتراصفة بالتتالي أمام تسونامي الثورة الذي بدأ من تونس.
ورغم تشابه الظروف في البلدان العربية شعوباً وأنظمة، فلكل ثورة شرارتها الخاصة.
خصوصية سوريا تتلخص في أن بعض أطفال مدينة درعا، هم من قدح شرارة الثورة.
أطفال لم يعرفوا أو لم يوافقوا أهاليهم على الخوف، ولم تردعهم أمثولات الرعب السابقة من مثل تدمير مدينة حماة عام 1982، حين قُصِفت المدينة بالدبابات والمدفعية والطائرات، مخلِّفةً وراءها ما يزيد عن عشرين ألف قتيل، إضافة إلى عشرات الآلاف من المفقودين والمعتقلين.
في ليلة ما من شهر آذار 2011، اعتقلت السلطات السورية عدداً من أطفال مدينة درعا، أعمارهم بين 10 و 15 عاماً، كتبوا على جدران مدينتهم شعارات مشابهة لتلك التي سمعوها ورأوها على القنوات الفضائية في تظاهرات تونس ومصر، من مثل: الشعب يريد إسقاط النظام.
حاول الأهالي الاتصال بالمسؤولين الأمنيين والسياسيين لإطلاق سراح الأطفال، وذهب وفد من وجهاء درعا للقاء عاطف نجيب رئيس فرع الأمن السياسي في مدينتهم، وهو بالمناسبة ابن خالة الرئيس السوري، فقال لهم: أنسوا أطفالكم الذين هم عندي واذهبوا إلى زوجاتكم لتنجبوا منهن أطفالاً آخرين، فإن كنتم لستم رجالاً وغير قادرين على ذلك فإن رجالي يستطيعون أن يقوموا بالمهمة نيابة عنكم. وهكذا خرج الوجهاء من عنده مذلّين مهانين وغاضبين وهم ينوون الانتصار لكرامتهم.
بعد أيام أُفرِج عن الأطفال، ليكتشف الجميع أنهم تعرضوا لتعذيب وحشي بلغ حد تكسير الأسنان وقلع الأظافر، فاندلعت الانتفاضة في هذه المدينة على نحو شامل، إذ نزل شباب المدينة إلى الشارع، ثم تبعهم الآباء والأمهات والإخوة والأخوات.
كان جواب السلطات على تلك التظاهرات رصاصاً حياً أودى بحياة مئات المتظاهرين، ثم انتشرت النار في الهشيم على كامل مساحة سوريا.
48 عاماً متواصلاً وسوريا تعيش تحت حالة الطوارئ، أي ما يعادل ثلاثة أحكام مؤبدة وفق قوانين بعض البلدان الأوروبية. ويبدو أن الأجيال الجديدة في سوريا قد قرّرت أنها لن تنتظر أكثر، وأن مجزرة حماة التي مرّت بصمت عالمي سنة 1982، لن يمرّ مثلها الآن بصمت، فالأجيال الجديدة تعرف كيف تدافع عن مستقبلها، وكيف تتعامل مع الإنترنت والموبايل والقنوات الفضائية.
في البداية ادعى الإعلام السوري أن وراء التظاهرات جهات خارجية، وليثبت ادعاءاته قامت السلطات باعتقال أحد الناشطين المصرين وإجباره على الاعتراف على التلفزيون السوري الرسمي بأنه عميل لجهات أجنبية.
ولكن النظام السوري اضطر لإطلاق سراحه بعد أيام، لأن ذلك المصري يحمل جنسية أميركية. تحدّث الرجل حين وصل إلى مصر عما حدث معه فسقطت ألاعيب النظام السوري.
ولكن الإعلام السوري اخترع كذبة جديدة تقول إن الأمير السعودي بندر بن سلطان وجهاز مخابراته وراء ما يحدث، ثم تغيّرت التهمة إلى أن تيار الحريري في لبنان يهرِّب أموالاً وأسلحة إلى المتظاهرين في سوريا، ولكن سرعان ما انهارت هذه الأكاذيب، فادّعى النظام أن هناك مجموعات سلفية إسلامية مسلحة تقوم بإطلاق النار على المتظاهرين وعناصر الجيش والأمن، وفي الواقع وكما أوضحت مئات الصور وأفلام الفيديو أن تلك المجموعات المسلَّحة إنما هي مجموعات أمنية وشبّيحة وفرق موت خاصة بالنظام.
بين يدي الإعلام العالمي اليوم ما يكفي من الوثائق والأرقام والأسماء والفيديوهات التي تكذِّب النظام السوري وإعلامه. آخر تلك الوثائق هرَّبها أحد الضباط المنشقين عن النظام عام 2014 وتضم 55 ألف صورة ل 11 ألف معتقل ماتوا تحت التعذيب، وقد تلقت الأمم المتحدة تلك الصور وعرضتها على الخبراء فأكّدوا أنها صور حقيقية.
ضاق النظام ذرعاً باستمرار التظاهرات واتساعها المطَّرد. كثرت التظاهرات نصف المليونية في حماة وحمص ودير الزور (بالإمكان تشكيل تصور عن حجم التظاهرات من خلال اللينكين المرفقين أدناه عن تظاهرات حمص وحماة)، وانفضحت كذبة أن الرئيس فاز بالاستفتاء بنسبة تقارب 98 في المئة، فقرر النظام اللجوء إلى أقصى ما يملك من قوى تدميرية (مدفعية ودبابات وطيران حربي وحوامات ترمي براميل متفجرة على معظم المدن والبلدات السورية، فدمّر 60 في المئة من مدينة حمص ومثلها أو أكثر من مدينة حلب، كما دمّر أحياء عديدة في مدينة دير الزور وكذلك درعا وحماة وبعض مدن محافظة دمشق وإدلب.
ظلت التظاهرات سلمية خلال الشهور السبعة الأولى من الثورة، ولكن قيام النظام بإعدام كل عسكري يرفض إطلاق الرصاص على المواطنين دفع آلاف الضباط والجنود إلى الانشقاق عن جيش النظام، وقد نظّموا أمورهم لاحقاً وشكلوا (الجيش الحر). لم يتلقَّ الجيش الحر أيّ دعم عالمي ذي معنى لا تسليحاً ولا تمويلاً، في حين كان النظام يتلقى الأسلحة والذخائر والأموال من جهات عديدة. ثلاث سنوات وزعماء العالم يقولون إن نظام الأسد فقد الشرعية، ولكنهم لم يقوموا بأي فعل للجم عنف النظام أو حماية المدنيين، بل إنهم كانوا وما زالوا يغضون الطرف عن مجازر النظام. ثلاث سنوات والمنظمات الدولية ترسل مساعداتها الإغاثية للشعب السوري عبر النظام الذي لم يوصل منها شيئاً للمناطق الخارجة عن سيطرته. مؤخراً اتخذ مجلس الأمن قراراً يقضي بإدخال المساعدات إلى المناطق المنكوبة بدون أخذ إذن من نظام الأسد، ولكن الفيتو الروسي ما زال قائماً ضد تسليح الجيش الحر بمضاضات طيران وضد حماية المدنيين من الطيران الحربي، والإدارة الأمريكية ترفض تقديم أي دعم يحمي المدنيين من طيران النظام بحجة الخوف من وقوع تلك الأسلحة في يد الإرهابيين. ولكن حين اجتاحت (الدولة الإسلامية في العراق والشام) نصف مساحة العراق واحتلتها خلال أيام من أواسط شهر يونيو 2014 وغنمت كل ما فيها من أسلحة الجيش العراقي ( وهي أسلحة في معظمها أمريكية) فقدت الإدارة الأمريكية حجتها في عدم تسليح الجيش الحر، ولكنها لم تتحرَّج من الإعلان عن دعم الحكومة العراقية بسبعة آلاف صاروخ (بدون الخشية من وقوعها في أيدي الإرهابيين) بل إنها لم تتردد في حماية المدنيين وإرسال طائراتها لقصف مواقع الدولة الإسلامية. كأن نقص الضمير العالمي يدفعه إلى رؤية مخاطر الدولة الإسلامية في العراق ولا يرى مخاطرها في سوريا!
نقص الضمير العالمي وتنصّله من مسؤولياته في حماية المدنيين في سوريا هو ما هيّأ الظروف لتنامي التظيمات الإرهابية التي يدعي النظام أنه ضدها وواقع الحال أنه معها، ومن المعروف أن أخطر قيادييها كانوا سجناء عند النظام وأطلق سراحهم في بدايات الثورة.
مؤخراً أعلنت الإدارة الأمريكية أن النظام لا يحارب الإرهاب، وأن الفصائل المعارضة المعتدلة هي التي تقوم بمقاتلة قوات الدولة الإسلامية وقوات النظام في آن معاً، ولكن بدون أن يترتب على هذا الإعلان أي موقف عملي داعم.
حتى الآن هناك جهات دولية عديدة لا تخجل من ادعاء أن نظام الأسد علماني. إنهم يتعامون عن دعم إيران له وهم يعرفون أن النظام الإيراني ليس علمانياً، ويتعامون عن دعم حزب الله اللبناني له وهو حزب شيعي لا علاقة له بالعلمانية، وكذلك الحال مع لواء أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وهي ميليشيات عراقية شيعية تقاتل في سوريا إلى جانب النظام.
بعد دخول الثورة في عامها الرابع وبعد توثيق أكثر من مئة ألف قتيل مدني توقفت الأمم المتحدة عن إحصاء أعداد القتلى السوريين. ولكن آخر إحصائيات مراكز التوثيق تشير إلى ما يزيد عن 170 ألف قتيل، بينهم أكثر من عشرة آلاف امرأة وأكثر من إثني عشرة ألف طفل، ومئات آلاف المعتقلين والمفقودين، بالإضافة إلى قرابة عشرة ملايين لاجئ ونازح داخل سوريا ودول الجوار.
تُرى ما الذي يحتاجه الضمير العالمي وما الذي ينتظره كي يستيقظ ويقوم بدوره في وقف هذا الجحيم الذي يتعرض له الشعب السوري؟!