Skip to main content

المجتمع المدني في تونس بين الآمال ولعبة السياسة

Credits Text: Afef Abrougui September 10 2014

إن إلقاء نظرة على واقع المجتمع المدني في تونس ما بعد الثورة تجعلنا ننتبه إلى الانفجار العددي في حجم الجمعيات الذي تجاوز 12000 جمعية.هو نمو كمي سريع نتج عن حالة الانفتاح والتسهيل في الإجراءات التي شهدتها تونس بعد انهيار أعلى هرم السلطة الديكتاتورية.بالإضافة إلى أن المجتمع التونسي بدا في حالة تعطّش للعمل المدني،واستعداده للدفاع عن حقوقه في تسيير الشأن العام والتعبير عن آرائه والمساهمة في بناء مستقبل البلاد.ولكن وبالعودة إلى المسار الفعلي لهذا الكم الكبير من مؤسسات المجتمع المدني،نتبين حجم التحديات التي يواجهها لا سيما على مستوى المشاركة في بناء دولة القانون والمؤسسات،وتركيز نظام ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات للمواطنين.زد على خروج الجمعيات والمنظمات عن حيادها وتأثرها بموجة الاستقطاب السياسي التي شهدتها البلاد. تميزت البيئة العامة السياسية والحزبية في تونس بعد الثورة ولا سيما بعد الانتخابات بالاتجاه نحو الاستقطاب الثنائي وتقسيم المشهد السياسي والاجتماعي بالاعتماد على معايير متصلة بالهوية وبالانتماء الديني والثقافي وبمدى الارتباط بالنظام السابق.مشهد ألقى بظلاله خاصة على تركيبة المجتمع المدني الذي اتبع في هيكلته العامة على ما يسمى بالحداثيين أو العلمانيين من جهة وما يسمى بالمحافظين أو الإسلاميين من جهة أخرى. وهو ما انجر عنه نوع من الالتقاء ما بين العمل الجمعياتي والعمل الحزبي.وحدث نوع من التطابق بين المطالب الصادرة عن المجتمع المدني والمطالب الصادرة عن الأحزاب السياسية. هذه المعادلة التي أخرجت مؤسسات المجتمع المدني من جوهر مهامه وأهدافه،وكانت أيضا سببا خلق مشاكل كبرى على مستوى حياد الإدارات والمرافق العامة.حيث عمدت بعض الهياكل الجهوية والمحلية إلى تعطيل الأنشطة والمظاهرات التابعة للجمعيات المعارضة للحكومة،فيما منحت التسهيلات للأطراف المحسوبة على أطراف حكومية. وأحدث هذا الخرق لحدود النشاطات والاختصاصات المجتمعية ارتباكا كبيرا في المشهد السياسي التونسي عموما.حيث تسبب التضخم الكبير في عدد الجمعيات في تحول العديد منها إلى معابر قانونية "ومقبولة" لمصادر التمويل المشبوهة والأجنبية لبرامج حزبية بعينها. كما انزلقت بعض مكونات المجتمع المدني إلى الانخراط في موجة العنف السياسي التي طالت البلاد.حيث ارتبطت هذه الأحداث أساسا بتنظيمات وجماعات تشكلت بعد الثورة وتتخذ في أغلب الأحيان شكل الجمعيات.وقد تفاقمت تجاوزاتها التي تدرجت من العنف اللفظي والمعنوي،والتحريض عبر وسائل الإعلام والصحافة والأنترنت ضد المثقفين والصحافيين والمعارضين.ليصل حد العنف الجسدي والاعتداءات المادية والتهديد بالقتل التي طالت الكثير،وصولا إلى تنفيذ القتل الذي طال المعارض لطفي نقض في (18/10/2012). وبهذا خرج الكثير من العمل الجمعياتي من سياقه المدني والمواطني من الباب الواسع،وأصبح التعاطي معه فقط من منطلق تهديد الوحدة الوطنية والأمن العام للبلاد. هذا الارتباك الذي شهدته الساحة الجمعياتية في تونس كان له أثره على مستوى فاعلية وجدوى أغلب مكونات المجتمع المدني لا سيما في مسار العملية السياسية وسن القوانين.حيث لم يتم الأخذ بعين الاعتبار النصوص القانونية التي تقدمت بها العديد من الجمعيات والمنظمات على غرار جمعية القضاة التونسيين في مرحلة صياغة الدستور.ورغم النداءات المتكررة والاحتجاجات التي تمت للضغط على سلط الإشراف،إلا أنها لم تجد أذانا صاغية.كما التحق العديد من الجمعيات والمنظمات بمشروع وزارة حقوق الإنسان في إطار المساهمة في وضع القوانين المتعلقة بمسار العدالة الانتقالية.لكن وبعد جهود المشاركة في البحث والنقاش تم تغييبهم فترة وضع القوانين،مما أثار حفيظة الكثير من هذه الأطراف والتي باءت دون جدوى.ولعل أكثر الملفات التي أخرجت الكثير من المنظمات والجمعيات من صمتها هيئة الحقيقة والكرامة التي تم إحداثها بموجب قانون العدالة الانتقالية. حيث عمل المجلس الوطني التأسيسي على إقصاء المجتمع المدني ولا سيما المختص والعامل في مجال العدالة الانتقالية من أعمال لجنة فرز ترشحات هذه الهيئة.فيما جرت العملية وراء أبواب مغلقة وفي ظل محاصصة حزبية وتوافقات مسبقة.مما جعل العملية برمتها غير شفافة وتطرح الكثير من التساؤلات التي ما تزال تضج الناشطين على الساحة الجمعياتية.وبلغ الأمر حد مقاطعة عملية تنصيب هيئة الحقيقة والكرامة التي نظمت يوم 09 جوان الفارط.والحال أن مسار العدالة الانتقالية هو مسار تشاركي ويقتضي التقاء الجميع ويخرج من دائرة التوافقات السياسية والحزبية الضيقة.كما أن تجارب الدول الناجحة أكدت أن تشريك المجتمع المدني في هذه المحطات يدخل في إطار تهيئته على فهم آليات العمل الديمقراطي.وإعداده ليلعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع حتى لا تحيد الحكومة عن أهدافها وتنفرد الدولة بمعالجة الشأن السياسي وسط تغييب تام لإرادة الشعب في طرح تصوره لمستقبل البلاد.ورغم هذا الإقصاء الذي تعمدت الحكومة والمجلس التأسيسي ممارسته مع الكثير من مكونات المجتمع المدني إلا أن هناك بعض المؤسسات التي تحظى بثقلها الشعبي والتاريخي تمكنت من كسر هذا النمط من التعامل.ولسائل أن يساءل ما هي هذه المنظمات؟وما هي أبعاد مساهمتها؟ولماذا لم تعمد الهيئات إلى طمسها كغيرها من الهياكل المدنية؟ الأمر يعود إلى فترة اغتيال قائدين سياسيين من حزبين يساريين علمانيين- شكري بلعيد في فيفري 2013 و محمد ابراهيمي في جويلية 2013. حيث أشعلت هذه الاغتيالات الشارع وتتالت مسيرات والاحتجاجات الحاشدة المضادة للحكومة التي كانت بقيادة حزب النهضة الإسلامي.هذا إلى جانب تهديد المجلس الوطني التأسيسي بالانحلال بعد إعلان 60 عضوا فيه استقالاتهم. ثم ما لبثت البلاد أن واجهت صدمة أخرى حين تمت قتل ثمانية جنود في 29 جويلية من نفس السنة أثناء ملاحقتم لأعضاء تنظيم القاعدة على طول الحدود مع الجزائر لتكون أكبر خسارة تلحق بالجيش التونسي في تاريخه الحديث.هذه الأحداث المتتالية أربكت الجميع وضاعفت الأصوات المنادية بتنحي الحكومة وعمقت الصدام بين الفرقاء السياسيين.وهم تطلب حضور أطراف تقوم بدور الوسيط وتنفذ الوضع من الانفلات،وتقرب وجهات النظر.واضطلع بهذه المهمة أربع منظمات مجتمع مدني عريقة- عرِفت بشكل جماعي باسم "رباعي الحوار- وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وجمعية المحامين التونسيين، واتحاد الصناعة والتجارة. وقد نجحوا اعلان عن خريطة طريق تضمنت الدعوة إلى إقرار المسودة الأخيرة من الدستور،ودفع حكومة النهضة للاستقالة وتشكيل حكومة تكنوقراط تحل محلها.والمتابع لسير الأحداث في تونس قد يقتنع بأن هذه المنظمات توصلت فعلا لتهدئة الوضع في البلاد وجمع الفرقاء على مائدة حوار واحدة.ولكن بمجرد التمعن في مجريات الأوضاع وحقائق اللعبة السياسية ربما ندرك حقيقة تراخي الحكومة مع هذه الأطراف وإيلائهم هذا الحضور الذي يبدو للكثير حاسما. فما تم لم يكن غير تسوية هشة اضطرت الأحزاب السياسية الرئيسة، خاصة النهضة، إلى إبرامها بضغط من لاعبين إقليميين ومن سياقات الأحداث المستجدة. وعلى وجه الخصوص حادثة سقوط الرئيس المصري محمد مرسي في جويلية 2013،وما تبعه من عمليات قمع صارمة ضد جماعة الإخوان. وتأثير ذلك على موقف حركة النهضة الحزب الحاكم من قضايا رئيسة ومنها كيفية الاستجابة للمطالبة باستقالة الحكومة. هذا علاوة على أن الحرب الأهلية في الجزائر، غير البعيدة جغرافيا عن تونس، في حقبة التسعينيات التي تركت بصماتها هي الأخرى على راشد الغنوشي، زعيم الحركة وعلى الموقف السياسي البراغماتي عموما لحزبه.حيث يرى أن تبخر الأغلبية التي حصدها الإسلاميون في الجزائر في ديسمبر 1991 بسرعة جاءت بسبب الخطوات المتسارعة التي اتخذها هؤلاء لفرض عقائدهم على المجتمع.ولعلنا نكون أكثر موضوعية ونقر أن مختلف مكونات المجتمع المدني في تونس عموما وما تزال بصدد التشكل من جديد، إذ أن التنظيمات والجمعيات الفاعلة في البلاد في أغلبها جديدة ووليدة الثورة تفتقر للخبرة الكافية للمساهمة في بناء مشهد وطني تعددي مخالف للمشهد السابق.وما تزال تستنشق الجرعات الأولى للحرية وإن أسهمت إلى حد ما في إذكاء مساهماتها في رسم ملامح تونس اليوم. زد على ذلك أن خلفيات هذه التنظيمات الفتية غير بارزة إلى حد الآن وغير واضحة الأهداف والبرامج حتى يقع تصنيفها بطريقة سليمة والتعامل معها على أساس هذا التصنيف،والحكم على مدى مساهمتها في تحقيق المرحلة الثانية من مسار الانتقال الديمقراطي في تونس.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search