المجازات القومية: عملية الشاعر عبدالوهاب لاتينوس
نجلاء عثمان التوم شاعرة وكاتبة، ومترجمة سودانية. أكاديمية، وناشطة مثقفة من تولد الخرطوم عام ١٩٧٥. تعيش منذ عدة أعوام في مملكة السويد. لها قصائد مغناة وتعتبر من الأصوات التي لعبت خارج السودان دورا مهما في مساندة الثورة السودانية التي أطاحت بالدكتاتور عمر البشير. بسجلها الأدبي والثقافي تعتبر نجلاء عثمان التوم من الأصوات النسوية المهمة في السودان خصوصا وأفريقيا
عموما. لها ثلاثة مجموعات شعرية: منزلة الرمق، الجريمة الخالدة ذات الأقراط، ألحان السرعة. بهذا النص تلقي الضوء على جوانب خفية من التعسف الثقافي في السودان
في العشرين من اغسطس لعام 2020 غرق الشاعر السوداني عبدالوهاب لاتينوس في المانش مع مجموعة غير معروفة العدد من المهاجرين الافارقة. وكان الموت واشتهاء التلاشي ثيمات متكررة في اشعار عبدالوهاب حتى حسبت أنه انما كان ينعى الشعر والحياة حتى وهو غارق في الحب، بل بالأخص حين يغرق في الحب. بالأخير، في استدعاء لحظي لضياع لوركا، قامت هذه الاشعار مقام كاتبها وصارت بالحق الصوت الوحيد الذي يملكه الشاعر كونه اعتنى بموته جيداً في نصوصه، وصار هذا العابر الغريب الذي لا نعرف له قبرا خلاف مياه الغرباء. لم اجد جلاء انظر به الى مجاز البحر الغريب قبراً للشاعر انصع من مفهوم فردريك جيمسون حول حتمية صناعة "المجازات القومية"، بلا فكاك، مثل كابوس لا ينتهي.
في مناقشته للعبء الوجودي لأدباء العالم الثالث،عارض جيمسون في مقاله المعروف " أدب العالم الثالث في عصر الرأسمالية متعددة الجنسيات" (1986)، عارض استحقار النقد المركزي الاوربي لأمر الأدب خارج الغرب، أدب ما يسمي بالعالم الثالث. واحتج جيمسون باستقلال نسب هذا الادب ومفارقته لمصادر تكوين الادب الغربي المعروفة. وقال ما معناه أن الأدباء في جنوب العالم منطبقين على مصائر بلادهم بلا فكاك و منذ البداية، وخلاصهم الفردي ينطبق مع السياسي، مرغم أخاك لا بطل. وشرح جيمسون خصوصية نسيج الادب الجنوبي بقوله أن هذا الانطباق مفارق لخريطة فلسفة الفرد الحداثوية التي ترسم تخوم متصلة للتراث الادبي الغربي، بينما ينتزع الكتاب لدينا فرادتهم في انهيارات ما بعد الحداثة . بمعنى أن الكتابة الجنوبية لا تنتسب لسردية التنوير التي خرج منها الادب الغربي الحديث بل تحمل صليب تهدم الانظمة التقليدية تحت وطأة النظام الرأسمالي الاستعماري الذي انتجته هذه السردية. لذلك يصعب، في اعتقادي، الامساك بصورة مستقرة لتمرد الشاعرات و الشعراء من جنوب العالم، فمحض وجودهم يشكل خروج مربك على نسق مهيمن. وجود ظل غامضاً و يستدعي اجراءات استثنائية مثل شروحات جيمسون و غياتري سبيفاك حول امكانية أن يكون للتابع صوت. وعندما نحاول اختراع سردية كبرى يتمرد داخلها الكاتب الافريقي مثلا سنتعثر دائماً بكوم من العظام المجهولة، عظام عبدالوهاب التي هي تاريخ المقاومة، وتاريخ الهزيمة، وتاريخ الاستعمار والرق، وتاريخ فشل دولة ما بعد الاستعمار، وتاريخ العنصرية والحرب الاهلية والابادة الجماعية، وتاريخ الاستعمار الجديد، اي الثقل العنيف لاسم افريقيا. و في نصوصه كما في المياه الغريبة التي اغرقته كتب عبدالوهاب مجاز افريقيا الضائعة، بعظامه التي لن نعثر عليها أبدا، بأحداث موته المعلنة، موته الذي تكرر آلاف المرات في جثث أخرى، ونصوص أخرى، بلا فكاك.
اعتبر العمل الثقافي في السودان، بقدر كبير، ساحة مواجهة داخلية. مواجهة يقودها المثقف مع عنف الدولة وعنف الثقافة، وعنف ادوات الانتاج الفكري والثقافي. وكلما عجلنا بالانتباه الى مشكلة عنف الادوات كلما اقتربنا من فهم واقعنا المعقد. قبل ايام اجريت حواراً شاقاً مع الكاتب الصديق عمر سوبا لصالح مجلة البعيد الالكترونية (قيد النشر) حول تطوير لغة الفور وتحويلها الى لغة مكتوبة ومسجلة في الانظمة الدولية. الفور هي ثاني اكبر لغة في السودان بعد العربية، بمقياس عدد المتحدثين بها في النسبة العامة للسكان. بالنسبة لي تمثل استعادة لغة الفور وبعض اللغات الاصلية الأخرى من مصير الانقراض الذي دفعت اليه دفعاً بسياسات ثقافية عنيفة هو اهم حدث ثقافي في السودان في السنوات الاخيرة. تعرفت على عمر في بداية العام عن طريق صديقي مغني البلوز السوداني ايبو كردم. وكانت الجائحة هي السياق الذي جمعنا. فعندما وصلت جائحة كوفيد 19 الى السودان في شهر مارس الماضي قررنا الانخراط في جهود التوعية الصحية. واتفقت مع ايبو على تكوين مجموعة تهتم بترجمة الارشادات الصحية الى لغات دارفور الكبرى مثل لغة الفوروالمساليت والزغاوة. كان عمر سوبا هو مترجم لغة الفور الرئيسي والوحيد وساهم مساهمة كبيرة جدا في ترجمة واعداد ونشر الملفات الصوتية التي تحمل موجهات الحماية من جائحة كوفيد 19. في هذا المعمل اللغوي تعرفت على جانب من مخاضات تطوير اللغات الاصلية في اقليم دارفور، وهو اقليم اخترقته الحرب الاهلية ووقعت فيه الإبادة الجماعية الوحيدة التي شهدتها الانسانية في القرن الحالي. ففي العام 2003 اشتعل الاقليم في حرب منهجية قادتها الحكومة المركزية في الخرطوم وقتلت فيها 300 الف مواطن سوداني من دارفور، واغتصبت مئات الآلاف من النساء، وشردت ما يفوق المليونين في معسكرات نزوح ما زالت قائمة حتى اللحظة. وبينما تنامت درجة الحصول على معلومات الانتهاكات الانسانية وجرائم العنف المباشر والعنف الهيكلي التنموي غابت اي صورة حول الحرب الثقافية التي سبقت وصاحبت الحروب الاهلية في دارفور ومناطق أخرى في السودان مثل جبال النوبة والنيل الازرق و جنوب السودان قبل الانفصال في 2011. لم تتوفر صورة مكتملة حول عنف الدولة الثقافي العنصري في الاقليم الذي يصدر المهاجرين الى جميع دول العالم بما في ذلك اسرائيل. في منتصف الحوار مع الكاتب عمر سوبا حول لغة الفور صور لي اللحظة التي سمع فيها لأول مرة اسم عمر اثناء اجراءات التسجيل في المدرسة الابتدائية وكان عمره حوالي تسعة سنوات. لم يكن مسموح تسجيل اسماء غير عربية في سجل الاجلاس المدرسي مما يضطر الاسر لاختراع اسماء عربية للابناء ليتمكنوا من الحصول على تعليم الاساس. قال لي "اسم الحقيقي ليس عمر، و معظم الاسماء التي تعرفين بها شباب الفور ليست هي اسماءهم الحقيقية". في دارفور وجبال النوبة ومناطق متفرقة في شرق السودان وفي النيل الازرق تعتبر اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي يتردد صداها داخل المدرسة مما قاد الى تسرب عدد كبير جدا من التلاميذ الذين نشأوا على لغة البداويت او التقريت أو الفور أو الزغاوة من النظام التعليمي. اما الاطفال الذين بقوا فقد تعرضوا لعقاب بدني قاسي جداً لمجرد خروج كلمة واحدة بلغتهم الام في المدرسة. لقد تجرعت هذه الثقافات اللغة العربية ولعقتها مع دم جروح الاجساد الصغيرة. "لم نفهم لماذا يحدث كل ذلك؟ لماذا لغة امي واهلي شي يستوجب الضرب والاخفاء"؟ سالني الصديق الذي اعتقدت ان اسمه عمر.
في الخرطوم، التي ولدت ونشأت فيها، سمحت لنا الدولة باستخدام اسماءنا الحقيقية لكنها سرقت المستقبل. لقد دخل السودان في نفق الحكم العسكري للمرة الثالثة في يونيو 1989. عندما وقع الانقلاب الثالث على الديمقراطية كنت طالبة في المدرسة المتوسطة. وهكذا فقد نشات في مدينة معسكرة بلا مكتبات ولا كتب، و هذه بالمناسبة طفولة المحظوظين جدا في بلدي لأننا لم نولد في مناطق النزاعات. عندما دخلت مجال العمل الثقافي والانتاج الادبي بشكل جدي في منتصف التسعينيات شهدت حرب الدولة المنهجية على التفكير الحر والابداع. اولاً، تم الغاء نشاط المكتبة المدرسية على نحو تام وفرضوا على الطلاب ازياء عسكرية سخيفة. صودرت كتب زملائي واصدقائي بل حتى الكتاب الذين كنا ننظر لهم بقدسية. صودرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" وحذفت من مقررات الدراسة بالجامعات. صودرت آلاف الكتب العربية والمترجمة ومنعت من الدخول بينما امتلات المكتبات بكتب الدين الصفراء. منعت كتب المعارضين السياسين وضرب حصار شديد على منشورات المجدد الديني الاستاذ محمود محمد طه، الذي اعدمه ديكتاتور سابق في 1985. كانت التسعينات فترة حرب ثقافية منظمة في بلدي. وهاجر ملايين السودانيين الذين فقدوا وظائفهم في موجات الفصل التعسفي من العمل بما في ذلك المثقفين والكتاب والناشرين. حورب الكتاب كأنهم طاعون و منعوا من ممارسة التنظيم في اتحاد الكتاب والروابط الثقافية وتم عزلهم في دوائر متفرقة ومشتتة ومنهارة. منعت من النشر كتب الفلسفة ولكن ايضا كتب الاطفال بما في ذلك قصة للأطفال كتبتها صديقتي الكاتبة ستيلا قايتانو برسومات الفنان التشيكلي حسن موسى. صودرت روايات عبدالعزيز بركة ساكن، واسماء عثمان، و عدد كبير من الكتاب السودانيين داخل وخارج البلد.
نضجت محاولات الخلاص الشجاعة ووصلت ذروتها في ديسمبر 2018 عندما تفجر أكبر فعل سياسي منظم ضد الديكتاتورية العسكرية الاسلامية المدعومة بمليشيات الجنجويد. تصاعدت مقاومة مذهلة بكل المقاييس قادها شابات وشباب لجان المقاومة في الاحياء وهي تنظيمات قاعدية ثورية خارج الفضاء السياسي الفاسد الهرم الذي سيطر على المشهد السياسي في السدوان منذ الاستقلال عام 1965. رغم التضحيات الجسيمة لثوار السودان ما زال البلد رهينة لدى لوردات الحرب الذين يجدون السند من بعض دول الخليج، لكن بشكل اساسي من الاتحاد الاوربي. هل تذكرون مليشيات الجنجويد التي نفذت الابادة الجماعية في دارفور؟ لقد انتهى بها الأمر لاستلام زمام السلطة في شراكة مع المدنيين في اغسطس 2019. وهي المليشيات نفسها التي استأجرها الاتحاد الاوربي في صفقة لا تعرفون عنها الكثير اسمها عملية الخرطوم khartoum process تم التوقيع عليها في فبراير 2014. عملية الخرطوم هي اتفاق معني بالحد من عدد المهاجرين الافارقة الذين يصلون الى البحر المتوسط، بالتعاون مع دول افريقية على رأسها السودان. من اجل تحقيق هذا الهدف لم يجد الاتحاد الاوربي حرجا من استخدام ميلشيات الجنجويد ل"تنظيف" الصحراء والسيطرة على تجارة البشر كما يزعم قادة المليشيا في تصريحات رسمية مسجلة. إن عملية الخرطوم التي توفر ملايين الدولارات للوردات الحرب وتقوي شوكتهم هي التعبير الأكمل لانهيار قيم النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وتبلورت فيه فلسفة ومفاهيم الديمقراطية والشفافية و حقوق الانسان التي تمثل أسس الدولة الحديثة. لقد وجدت اوربا مليشيا تنفذ لها المهام القذرة في الصحراء الافريقية البعيدة عن التغطية الاعلامية، تحت ذريعة محاربة الاتجار بالبشر. إن اقدام الاتحاد الاوربي على هذه البشاعة شجع دول منتهكة لحقوق الانسان مثل المملكة العربية السعودية والامارات العربية على استخدام نفس المليشيات في حرب اليمن التي يخجل العالم من فظاعاتها و يدعي الاعلام العالمي أنها لم تحدث. في 2003 اباد الجنجويد اهل الشاعر عبدالوهاب لاتينوس وشردوهم في من قراهم متسببين في أكبر موجة هجرة في الاقليم الغربي السوداني، ثم شرعوا هم انفسهم في حراسة حدود الاتحاد الاوربي الجنوبية داخل افريقيا لحل مشكلة الهجرة غير المنظمة لاوربا. حسناً، لم تفلح المليشيا في اجهاض عملية الشاعر عبدالوهاب لاتينوس ونجح في الوصول الى البحر مع زمرة من الغاضبين، ثم وصل وحده الى مجازه الاخير.
لكن، الأمل يستمر. قبل اسابيع صادفت هذا الاعلان الذي ادرجته مكتبة أفيال على صفحتها الرسمية " احتفاء بحرية النشر والقراءة في اسبوع الكتب الممنوعة تقدم مكتبة افيال خصم 50 بالمائة على كتب وروايات منعت من النشر في ازمان مختلفة ولاسباب مختلفة، #اسبوع الكتب الممنوعة". ونشرت مجلة البعيد الالكترونية عدد من النصوص في اللغات السودانية الاصلية مثل لغة الفور ولغة المساليت، نشر مباشر غير اعتذاري و في استقلال تام عن اللغة المهيمنة. ربما تكون هذه بداية لتحول طفيف في عملية بناء الدولة السودانية التي يقودها شباب وشابات لجان المقاومة في الاحياء والقرى ومعسكرات النزوح منذ ديسمبر 2018 والى ما لانهاية.