Skip to main content

ركام الشباب أو نصوص الجيل الغزيّ الجديد

Credits أسماء الغول May 22 2023

لا يحتاج الأمر الكثير من التدقيق عند قراءة نصوص الشباب المعاصر الآتي من مجتمعات يغلب عليها الصراع، لنرى كيف يتمثّل الواقع في كلماتهم وأفكارهم ورؤيتهم لمستقبل الأيام وارتباك الهوية، وهو ما ينطبق على نصوص الشباب الذين جاؤوا من فلسطين، وكبروا في مجتمع ما بعد الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وحصار مستمر منذ 16 عامًا تخللته عدة حروب. فينمو اليأس كشجرةٍ في العبارات والتشبيهات، إلى درجة تشعر أنه مرادفٌ للأمل ومقاربٌ للسعادة، وهذا أمر لا يختلف كثيرًا بين نصوص الشباب والشابات خلال جيليّ العشرينات والثلاثينات من الكُتّاب في قطاع غزة، بل تكاد هذه النصوص تُكمّل بعضها كما لو

ومن هنا نتتبع الكلمات والنصوص لنكتشف عناصر الهوية الأدبية للشباب الذين يعيشون في قطاع غزة، وتأثير عقدين من الإضرابات السياسية. علاوةً على ذلك، هناك تاريخ من التراث الثقافي المُعقّد الذي يضع الشباب أمام حيرة السؤال حول العالم، واندماجه به، وتماهيه مع الأيديولوجيات المحيطة به، وكيف يكتسبون الخبرات ليفهموا ذلك الإرث من الثقافة المعقّدة والألم وتجربة الحصار.

الجيل الأول من الأدباء الشباب:

_الموت بديل للحياة

الموت ضيف ثقيل على النصوص الثلاثة الأولى لفتاتين وشاب تحت الخامسة وعشرين عامًا، إلا أنه ليس غريبًا بل ينسجم مع بقية النص، وأفكاره، فلن يصفوا الأشجار والأزهار والأنهار ويتحدثوا عن القطط والكلاب إنْ كانت البيئة عبارة عن ركامٍ لأربعة حروب، فهؤلاء الشباب إذا أرادوا الهروب من الخراب حولهم، ودخلوا إلى أنفسهم فلن يروا سوى الخراب أيضًا و الألم وذكريات المنع والفقر والعزلة.

تقول ميرا عليان في نصها " لا تتركوني وحدي، سأفكرُ لحظتَها ما هي الطريقةُ المُثلى لموتِ كلّ واحدٍ منكم، ربما تتداخل طريقتان سويًا، يلتقي اثنانِ لحظةَ الموتِ، يموتانِ سويًا، بهذا قد ربط مصيرهما في الحياةِ الأخرى سويًا، ينسيان حياتَهما السابقة، وأنساهم أنا، حقيقةً أنا لم أُنسَ".

وليست بعيدًا عن ثيمة الموت أيضًا كتبت رؤى حسونة:
"الحرب أمنية الميتين
لتجمعهم بمن عاشوا أمواتًا
أو لتخفف عنهم الوحدة بضمّ من ستسلبهم
"الحرب جارتنا"
والليل جارنا والحب مفتاح الحرب
الحب مقبرة الحرب
الحرب مقبرة للحب".

أما عصام حجاج فهو يُعرّف نفسه من خلال الموت والأنقاض إذ كتب في نصه:
" أنا أول العرافين
الذين سقطوا على أنقاضِ الحياة
وما بعدَ الموتِ
أنا السؤالُ الميتُ".

جميعها كلمات تؤدي للمعنى ذاته، النهاية، لا مناص، انعدام الأمل، حين تكتب فتاة في العشرينات من جيل ما بعد الانقسام خمس مرات كلمة الموت وما بعده " الطريقة المثلى للموت، لحظة الموت، يموتان سويًا، نجتمع بعد الموت، سنذهب للجنة" في نص أقل من 200 كلمة، يعني كثير من اليأس الداخلي، النضج المبكر الذي لا يجعل هؤلاء الشباب يعيشون أعمارهم، حتى إن بقية النص تتحدث عن الضوء الوحيد في ساعة الليل، ثم تخاطب الموت وذكريات أمها والله البعيد، فكل ما حولها لا يُوحي سوى بحصار النفس، وعلى الرغم من أن التكرار غير محبب في النص الأدبي، إلا أن التذوق اللغوي يختلف عند اليأس، فيبدو اللفظ الكابوسيّ كلّ مرة جديدًا ومهما استخدمت كلمات مثل الليل أو الموت فيبدو لا اكتفاء منهاـ وكلّ مرة تعطي معنى مختلف، وتحفر عميقًا في الحالة،

عند رؤى حسونة التكرار، أو السرد الرقمي أي إعادة للعبارة نفسها كل عدة أبيات، تتخذ منه تكنيك للتأكيد أن الحرب مقبرة الحب والميتين ووجه الفوضى، ولا عزاء حتى في الليل الذي لا تطيقه، والحب الذي لم يُكتب لها. بل لأصحاب العينين وهي بأربعة، فوسط الفوضى والحرب والمقابر عقلها صغر ولم يعد ملك للحب، قائلة:
"الحب مفتاح الحرب
الحب مقبرة الحرب
الحرب مقبرة للحب
عيوني اربعة والحب لمن له عينين
وعقلي صغير والحب لمن وهب العقل لحبه
الحب وجه جديد للفوضى "

أما الشاب عصام حجاج فلا تزال صور الحرب وموت الأطفال في عقله يُحوّلها إلى استعاراتٍ ذكية، يطير فوقها ليصبح آخر العرافين وأول من سقط على الأنقا إنه حتى لا يجرؤ على مواجهة الموت في قصيدته، بل يُحوّله إلى أطفال وحب ونائمين، إنه الموت المستعار، يقول في بقية قصيدته:
"تطيرُ الحياةُ من أفواهِ الأطفالِ
وتذهبُ إلى
الطريق
يجري الحبُ في دمائِهم
ك من يجري نحو الغزالِ
نسائمُ الروحِ باردةٌ
ترقصُ على وجهِ النائمينَ
وحوضُ الأغاني"

_سؤال المستقبل
لا يرى أحد من هؤلاء الشباب الثلاثة مستقبلًا عاديًا، بالضرورة الشاعر حزين، إلا أننا أمام حزن مطبق، لا يترك مساحةً من أملٍ أو فرح، إلى درجة تقول إذا كان هكذا الشعراء فكيف بالشباب العاديين الذين لا يُعبرون بالكلمات؟ كيف سيكون للموت سطوته على حياتهم؟ إذا ما كانت سطوة اللا أمل واللا مستقبل تقتل كلّ شيء في نصوص شباب لم يتجاوزوا الخامسة والعشرين بعد.

المستقبل عند ميرا عليان نراه في بقية قصيدتها عن ما بعد الموت والجنة والله والقدس الموعودة وشفاعة والدتها "لكي نجتمعَ سويًا بعد الموتِ في المشهدِ الذي خلقَهُ الشباكُ الآنَ، عندما نصلُ إلى الله ستكونُ بداية جديدة لا يستطيعُ صغرُ قلبي أو شباكي أو ليلي عليها، اللهُ هو قلبُ هذا النص"، إذن المستقبل ارتبط لديها وجدانيًا وعقليًا في مصير الموتى حولها، وخراب الحرب، ورائحة الجثث، فلا مستقبل إلّا ما بعد الموت.

تقول رؤى:
"الحرب أمنية الميتين
الذين رقد التراب أنوفهم
واشتاقوا لرائحتنا
الموت وحده من يسلب الأرواح
والأجساد ليست وحدها من تموت"
أما عصام فيرى بعض الحرية في مستقبله لكنها مقرونة بالحزن ومصير الأنبياء، وهو آخر الخارجين من فوهة الدهر بعد أن كان فوق ركام التائهين ويُبحر فوق العابرين، لكن سقط على الأنقاض وبقي السؤال الميت، فالموت غير المصرّح عنه بكلماته يشدّه إلى سوداويته مهما بحث عن صهيل نجاة.

يقول عصام:
"وجسدي حرٌ حزينٌ
يتبعُ وقعَ الأنبياءِ
ويزيدُ
أنا آخرُ الخارجينَ من فوهةِ الدهرِ
أحركُ عصاتي
ليصطفَ اللحنُ على شراعي
أبحرُ فوقَ العابرينَ
عقدًا
ولا يزالُ العقدُ منفردًا
أبحثُ عن صهيلِ النجاةِ"

الجيل الثاني من الأدباء الشباب:

_ثيمة الحب تغلب اليأس
وإذا ما كانت النصوص السابقة لثلاثة من الكتّاب تحت الخامسة والعشرين، فسننظر إلى مجموعة نصوصٍ أخرى للجيل الأكبر، بعد الخامسة والعشرين وحتى الثلاثينات، لنرى كيف تحول النص الأدبي سواء كان سرديًا أم شعريًا عند أسئلة الهوية والمستقبل، والأمل.

في نصوص الجيل الثاني ميلًا نحو الحب أو الشريك، كمعادل موضوعي للنجاة من الحاضر والموت، وأيضًا نرى الفضول نحو الجنس واللمس يأخذ حيزًا تبلغ قوته قوة الموت فنجده يغلب الأخير، لتنبع المفردات بالشوق والحياة والأمل، فالحب منقذ، والشريك منجي، كذلك الفضول نحو الجنس يُعطي رغبةً بالحياة، بل حتى تكنيك القصيدة يبدو أكثر تعقيدًا ونضجًا، ومستويات السرد تغيّرت فنجد مستوى المخاطب والمتكلم إلى جانب الغائب الكلاسيكي.

إنه يبدو كلما تقدم السن بالشاعر قل تفكيره بالموت وزاد شغفه بالحياة أو على الأقل تحول الموت إلى جمر انطفأت ناره بالكلمات وبقيت في الأفكار، لكن لا ندري هل يستمر ذلك إلى سن معينة ثم يرجع الموت بطل كتاباته كما كان في أول شبابه؟

هنا غازل العالول يُخفف الغياب بمخاطبة الحبيبة فيقول لها:
"غبتِ
وعليكِ أن تتصوري.
أن مضاجعة الوحدةِ ليس أمرًا سهلًا على سرير البكاء".

لا يريد هذا الجيل أن يواجه الموت وجهًا لوجه، لقد سأم منه، بالأحرى سأم الكتابة عنه بعد كل تلك الحروب، وأصبح تخلي الحبيب في لحظة ما أشد منه

نرى طارق حجاج غارق في جسد الأنثى يُشكّله ولا يعنيه ما يجري حوله:
"أنا مَن صـيّرتُ جســمكِ، أنا مَن عجنـتُ صـلصـالكِ اليـابس بيـديّ النـاعمتين اللتين ما مسَّهما ملح، عجنتُكِ جِيْدًا تقيسُ المجرات عمرها حوله، وساقًا خلخاله البحرُ.."

_سؤال العالم والذات
لكن ليس الحب وحده من شغل هذا الجيل عن الموت والحرب، بل هي الذات خلال تلك الحرب، وأسئلتها في العدم والوجود وأمام الله، ونرى رحلة البحث عن النفس، يقابلها استقرار في اختيار الشكل الأدبي والتكنيك الإبداعيّ في التعبير، فهناك من يكون مباشرًا تمامًا في عباراته مثل أحمد عبد العزيز، أو مليء باستعارات الطبيعة كمحمد أبو لبدة، أو يعود إلى التاريخ في استعادة التفعيلة الشعرية ومعها ألفاظ الجبل والقبيلة والأبيض القاني كقصيدة شهد الشمالي، أو أخرى تغوص في المكان والمدينة تبحث عن ذاتها كآلاء عبيد، والجميع يسأل، يبحث عن الطمأنينة، ومعنى الحرب، وما كينونتها، لم تعد الحرب مجرد انفجارات وموت، بل أصبحت تعني أسئلة في التاريخ والأصل والذات..

يقول أحمد عبد العزيز:
"قبل ثلاثة آلاف عامٍ من الآن تقريبًا
كان إبراهيم عليه السلام ينادي
بأرض المقدس أنّ الله الأعلى واحد
حين كان الكنعانيون ينادون بعشتروت
على كل أنثى تملك نهدًا يبرز في وجه الريح
هذه الحرب تأخذنا من أقدامنا كالأطفال
وتخبرنا بحماقتنا التي تظهر في التلفاز"

ولا يبدو أن أيًا منهم يجد ما يحيره، في أن يعثر على ذاته في مدينة حاصرته، تقول آلاء عبيد:

"حين تمرين أكسر جزءًا من غيمة عطرك وأوزعه في شوارع المدينة
مدينة نسكنها ولا تسكننا تحملنا اسمها قسرًا ولا تحملنا فوق مبانيها
لا أدري أرمادية هي؟ أم الرماد خلق فيها...
أُعلّقُ ما تبقى من نهاري خلف الباب، وأغلق الصندوق على ظله..."

وهكذا تحاول أغلب النصوص مرةً الغوص في الحب ومرةً تقريع الذات والتقليل منها مقابل العثور على الهوية وإيجاد قيمة العالم الذي لا يراه هذا الجيل والأيديولوجيا التي تحاول حصار رأسه مع جسده المحبوس في المدينة.

_البكاء كفعل وحدة
وليس الزقزوق الوحيد الذي يتحدث عن البكاء فهي ثيمة متكررة في جميع النصوص، ويبدو أنه الفعل الذي يغدو أكثر تكرارًا للتعبير عن اليأس والخوف من المجهول، كما أنه سلوك وحدة.

العالول "مضاجعة الوحدة ليست أمرًا سهلًا على سرير البكاء"

عاشور "وأنا حينَ أدركتُ أني أمام مرآةٍ بكيتُ"

عبد العزيز "تعلم أن يبكي في الطرقات حين يحاول أن يشرب"

هدير "كي ألملم ما تبقى من دموع"

ضحى " أرقمُ اللقاءات، أقيدها، وأبكي الغياب"

عبيد " لا تعاتب جمر عينيك لن ينصت إليك دعه يهوي.."

الزقزوق " أنا المسافةُ الممددة بينَ البكاءِ والدموع"

والبكاء ليس اليأس بقدر ما هو وسيلة نجاة من كلّ ما يحدث، والتعرف على الذات من جديد، فكأنه يغسل الروح للنظر إلى جراحها، لذلك وللمفاجأة فإن البكاء يكاد يكون الأمل الفيزيائي هنا بأنّ القادم أفضل.

_الأمل في مشاهد عدمية
ومع ذلك فإن البحث عن مشاهد أخيرة لخلاص الشعراء في نصوصهم أي ما بعد البكاء واستقبال القادم في الحياة، والتفاؤل بالمستقبل كان موازي للعدمية، بل المشهد الأخير على الحافة.. وكأن الأمل يساوي العدم.

تقول هبة صبري:
"إننا أبناء العدم
جثث لظلٍّ واحد من طين
كان أحرى بها أن تكون نورًا أو نار
ولأجل أن نخون العالم
أضع كرسيًا وحيدًا في المنتصف
وأمدد من فوق
حبال كثيرة "

فإن التمدد على حبال في منتصف العالم، هو الأمل لدى هبة أما حامد عاشور فيخرج متنكرًا بزي الأحياء وبضحكتهم ووحدتهم، وبقدرتهم على الموت وعجزهم عن الحياة فيخرج من صورته بأقدام من وهم ويدين من عدم.

يقول عاشور:
"أخرجُ متنكرًا بزي الأحياء
بضحكةِ الأحياء
بوحدتهم
بقدرتِهم على الموت
بعجزهم عن الحياة..
أخرجُ من صورتي
بأقدامٍ من وهم
ويدين من عدم".

أما العدم لدى محمود الشاعر فهو في النهايات التي تركض تجاهه كأنها جاءت قبل التجربة، يركض حولها في خسارةِ لروحه.

يقول الشاعر:
"إلى النهايات تركضين تجاهنا كأنكِ جِئتِ قبل التجربة، ونركضُ حولكِ كمن يَستمرُ في خسارةِ روحه. أيضًا عندكِ يَصير كِلانا توأمًا للرماد والقرار في حضرتكِ بيت به يَستهلُ الشاعر قصيدته".

أما هند جودة ستظل متشحة بالخوف عصرًا آخر وترتديه ثوبًا على احتمالات السطوع، تقول:
"سأظل متشحة بالخوف عصراً آخر
سأرتديه ثوبًا
وأستظل به في احتمالات سطوعك!"

وهذه الاحتمالات تحولت عند كريم أبو الروس لعنةً أبديةً تُصيبه في سؤال لها مستمر عمّا يحدث في آخر دقيقة لموته، وهربه، وهنا نرى جنوح الشباب الأكبر سنًا للنظر إلى خارج المكان الذي يعيشونه فربما يجدون هناك أنفسهم، في الغربة.

يقول أبو الرووس:
"حروف اسمها شباك لاذعة
وحارقة
رائحتها
لعنة أبديةٌ تصيبني
سؤالها المستمر عمّا سيحدث
آخر دقيقة في موتي
وهربي
إلى اللاشيء
أو إلى النجاة".

الخاتمة...
من الصعب الاستمرار في كتابة الأدب الخيالي، حين تسحب منك كثافة الموت الخيال ولا تبقي شيئًا غير وحشية الواقع، لذلك تبدأ الأجيال تكتب عن تجاربها الشخصية، كما احتوت النصوص السابقة؛ وصف الدمار، أن تروي عدم السفر، موت الأطفال، وفقدان الأمهات، عند كل هؤلاء الموتى والتمركز في الحصار، يصبح الخيال مستأجرًا لدى المعاناة والألم المُعاش، ولا يصبح هناك جدوى من نقاش حتى جودة الأدب والنصوص الجيدة، فكل المحاربين يصبحون كُتاب، وكل الكُتاب يصبحون محاربين، وسيكون الأمل في تلك اللحظة رديف اليأس.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search