بيت بيوت..
عبود سعيد ولد عام 1983 في منبج، سوريا. كتب عن يومياته البسيطة، على الفايسبوك ثم قامت دار نشر ألمانية (ميكروتكس) بترجمة هذه اليوميات ونشرها باللغة الألمانية في كتاب يحمل عنوان «أنا أفهم واحد على فايسبوك». عام 2013 انتقل إلى ألمانيا حيث طبع كتابًا ثانيًا بعنوان «حياة بحجم خبر عاجل» عن الدار نفسها. تُرجِمَ كتابه الأوّل إلى الإنكليزية والإسبانية والإيطالية والفرنسية والدنماركية والبرتغالية، قبل أن يصدر كتابه «عبود سعيد» لأول مرة باللغة العربية عن دار نوفل عام 2016.
عبود سعيد
أنا من منبج كما تعلمون، ومنبج مدينة مثل كل المدن السورية مرّ عليها قصف وموت وأحرار وأمراء وأشكال ألوان، والآن هي تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية ويسودها الأمن والأمان، وعلى ذمة الرّاوي "كل شي متوفر، كهربا تجي 3 ساعات باليوم، ميّ موجودة، وفي شغل، ورجعت شبكة سيريتل، وأدوية متوفرة وحرية تحت سقف سيريتل طبعاً، وضرب السجاير بالشوارع علناً!"
أمن وأمان تحققه قوات سورية الديمقراطية المدعومة من أمريكا الموجودة بشكل أو بآخر في منبج، ومين يضرب طلقة وأمريكا موجودة؟!
أمن وأمان والنازحين من المناطق الأخرى تتوافد على هذه المنطقة الآمنة، وأسعار العقارات ارتفعت وصارت خيالية، المحلات بمئات آلاف الدولارات والبيوت بعشرات آلاف الدولارات، يقولون إنه مال سياسي والله أعلم! هذا الكلام يفهم به السياسيون والمثقفون أصحاب العقول الضخمة، شؤون عامة لا تعنينا.
أنا من منبج وعندي 8 إخوة أكبر منّي و6 أخوات أكبر منّي، عدد أفراد العائلة مع الأم والأب والأحياء منهم والأموات 17 نفر، وعندما يسألني الأجانب عن عدد أفراد عائلتي أقول لهم "seventeen" تنفجر عيونهم ويصيبهم سكتة قلبية وصوت سيارات الإسعاف يملأ الشوارع وتستنفر المدينة كلها من هول وضخامة العائلة.
لكن هذه المرّة لم تنفجر عيون الأوربيين، إنما العائلة نفسها انفجرت عندما جاء أحد التجّار وعرض علينا مبلغاً محترماً ليشتري بيتنا في منبج.
البيت ورثة وعلى العائلة كلها أن تشارك في القرار، وبما أن منبج تسيطر عليها قوات سورية الديقراطية قررنا أن نتفاوض بشكل ديمقراطي، إخوتي موزّعين على الشكل التالي: قسم في السعودية وقسم ما زال في منبج وقسم في تركيا وأنا في ألمانيا.
وعلى مبدأ الديمقراطية والرأي والرأي الآخر اجتمعنا، وفشلنا من الجلسة الأولى وكلّ واحد منّا خرج متمسكاً برأيه، لا تنازلات ولا مفاواضات قادمة.
أخي في تركيا يقول:
- هي فرصة كويسة، نبيع البيت ونفتح مشروع هون ونعيش متل العالم، تعبنا يا أخي تعبنا..
ويحسم الموضوع ويتصل بالتّاجر ويقول له: خيّو موافقين، نبيع! يعترض أخي الذي مازال يعيش في منبج:
- أعوذ بالله! ما نبيع! ليش لنبيع بيتنا، بكرا يسقط النظام وكلكم ترجعون عالبلد.
فتنفجر العائلة بضحكة جماعية ضخمة ترجّ منبج وتركيا وألمانيا والسعودية وتخرِّس أخي.
- يا أخي نبيع هلق ولمن يسقط النظام ونرجع، نستأجر لبين ما نشتري بيت جديد.
يمتعض أحد إخوتي الذي يعيش في تركيا بالآجار، بيته ودكّانه وحتى غسّالته بالآجار:
- مستحيل نبيع بيتنا ونستأجر، مو عيب نستأجر؟!
فيتّصل بالتّاجر ويقول له: شكراً أخي، ما في نصيب!
أما أخي في السعودية المنغمس بالأخبار ومتابعة الشأن السوري في المحافل الدولية، وبناءً على ترامب وأخبار سوتشي والانتخابات التركية ونجاح أردوغان يقول:
- أنا برأيي نتمهل شوي، لنعرف شو رح يصير بسوتشي، وشو رح يسويي الائتلاف.
فيتصل بالتّاجر ويقول له: خيّو نحنا نبيع، بس بدك تنتظرنا لبعد الانتخابات التركية
تنزعج أمي من هذا القرار وتقول:
- ياخي نحنا شنو دخلنا بسوتشي وأردوغان، وشو دخل بيتنا بالمعارضة؟
فتّتصل بالتّاجر وتقول له: خيو ما تواخذنا، ابني صغير وما يعرف، لا تواخذو!ويدخل على الخط زوج أختي مستخدماً موقعه الحسّاس في العائلة وبشكل استراتيجي يقترح:
- يا جماعة طولم بالكم! يقولون رح يصير مطار بمنبج ويجوز تصير منبج باريس، والأسعار تصير بالغيم.
ويتّصل بالتّاجر ويقول له: خيّو بالنسبة لنساباتي وبيت حماي، يبيعون! بس السعر مو عاجبهم، أنا والله مو نايبني شي، فاعل خير.
وأختي الصغرى التي تعيش في تركيا تتصل بالتّاجر مباشرة وتقول له: أخي في حال تمّ البيع، أنا حصتي تسلّمني ياها بإيدي، ما تقلي عطيتا لفلان أو لعلاّن، هادا حقّي!
واستمرت الإتصالات بالتّاجر من إخوتي وأخواتي وأزواجهنّ، واحد بدو يبيع وواحد ما يبيع وأمي بدها المبلغ وبدها ترجع للبيت بمنبج وبدها يسقط النظام وبدها تتفسّح بتركيا، بدها كل شي.
تستمر الإتصالات إلى أن يتّصل التاجر بالعائلة كلّها ويقول: أنا ما عاد بدي بيتكم، وسوريا كلياتها ما عاد أعيش فيها!