الطريق هادئًا في المساء، لم يغادر الحجاج مكةَ وينتشروا على الطرق السريعة بعد. كنت في اللحظات التي يفرغ فيها الطريق الممتد أمامي من السيارات ونتوقف أنا وصديقي عن ممارسة "لعبة سفر" من تلك التي تعتمد على الذاكرة وتتم بواسطة الحديث ويمارسها الناس عادة على الطرق الطويلة، في تلك اللحظات كنت أنظرُ إلى انعكاس القمر المكتمل على سطح البحر الأحمر، وأفكر لماذا لا يمكن لأحد أن يمتلك أرضًا أو بيتًا على الشاطئ. مطلبٌ قد لا يبدو صعبًا، ولكنه هنا أشبه بالمستحيل. هي مجرد فكرة طارئة ترد في مخيلة أي شخصٍ يسير بالقرب من مئات الأميال من الشواطئ الفارغة أو المحاطة بالشباك المعدنية، حيث تبقى أكثر من 90% من شواطئ البحر الأحمر تحت ملكيات خاصة عائدة إلى شخصيات واسعي النفوذ في الدولة. وعلى أية حال، كما قلت هي مجرد فكرة طارئة، أنهرها عن ذهني بيدي كما أفعل مع ذبابة، ثم أتوقف لدى نقطة تفتيش أخرى ويطلب العسكري إظهار بطاقة الهوية.

أن تكون في رحلة برية إلى الجنوب في غير موسم السياحة، فأنت حتمًا ستستمتع بالمدن والقرى التي تزورها بدون التقاطع مع صخب السيّاح. إضافة إلى قضاء وقت نقاهة خارج مدننا المزدحمة بالعربات، فقد كان أحد أهداف الرحلة أن يتعرّف صديقي على قرية جدتي النائية والتي تبعد عن الحدود اليمنية أقل من خمسة عشر كيلومتر. وهذا ما حصل، فقد وصلنا إلى القرية أخيرًا، وفي ساحتها الكبيرة بالقرب من الوادي رأينا "مغلوب" يبيع الحلوى والتشيبس للأطفال كما هي عادته منذ أكثر من 40 عام.

يعاني "مغلوب" حالة توحد تدعى (أسبرغرسندروم- Asperger Syndrome) الأمر الذي يجعل التعامل معه خاصًّا ومختلفًا لمن لا يعرفه، أما بالنسبة لسكان القرية والقرى المجاورة فقد أتقنوا التعامل معه، لأن شخصًا مثله قد ساهم في بناء ذاكرة الكثير من سكان هذه المنطقة كبائع متجول، يبيع الحلويات والمشروبات الباردة في مناسبات الفرح والحزن ودوريات كرة القدم التي تقام في الملاعب الترابية لتلك القرى النائية والمنطوية على فقرها والحدود.

عانقته، وسألني مغلوب عن صديقي فأخبرته أنه من سكان مدينة جدة. "قل له أنني أستطيع عدّ كيس كامل من الأرز، حبة حبة، في سبيل أن أحصل على هوية"، قال ذلك مستجديًا، كما يفعل عادةً عندما يزور القرية أغراب، فما يدريك، ربما قد يصادف حضور أحد المتنفذين ويحققوا له أمنيته بالحصول على الجنسية السعودية.

مغلوب ذو الـ48 عامًا لا يحمل أية هوية. خرج إلى الحياة ولم يُميّز أحدٌ صوت بكائه لعلو صوت الحرب، وتم تجاهله في زمنٍ يُهتم فيه باستحواذ النفظ وتملك الأراضي أكثر من الاهتمام بالبشر السائرين عليها، فضاعت هويته بين دولتين: السعودية واليمن. مغلوب ليس سوى نموذجٌ واحد من بين الآلاف من سكان هذه المناطق الحدودية الذين يعيشون هنا منذ أن ولدوا في بيوتٍ بناها أجدادهم منذ تكوين هذه التجمعات القروية، ولكنهم استيقظوا يومًا واكتشفوا أن النظام تغير، ووفقًا لهذا النظام الجديد هم غير معروفين. أُجبر أغلبهم ومن ضمنهم والد "مغلوب" على الذهاب إلى اليمن لاستخراج جنسية يمنية –لكونه أسهل الحلول- والعودة إلى بيته، كي يستطيع أن يعيش بشكلٍ نظامي على الأقل، بعد أن غطى الغبار أوراق طلبهم للحصول على جنسية سعودية منذ عشرات السنوات على رفوفٍ أكلها الصدأ في مكاتب الأحوال المدنية، هناك، حيث نسيها الزمن، وستتحلل ولا يتذكرها أحد، حيث أن الجميع منشغل الآن بالاحتفال بولادة الحكومة الإلكترونية.

مغلوب لا يعرف أحدًا في اليمن، ولم يزرها يومًا، ويرفض رفضًا قاطعًا أن يذهب إلى اليمن كي لا يتم التشكيك في انتمائه إلى قريته. لذلك هو يجري غاضبًا خلف الذين يتسلون بحالته الخاصة وطريقة حديثه ويمزحون معه قائلين "سوف يُرحلك عساكر الجوازات إلى اليمن!" ولكنهم في نهاية اليوم يعترفون جميعًا أنه نشأ على هذا الجزء من الأرض ولا يعرف مكانًا أبعد من قريته والقرى القليلة المجاورة، ولم يتجاوز بيته بأكثر من خمسة كيلومترات منذ أن تعلم الخروج من البيت.

وصلتُ إلى بيت جدتي، كانت ممددةً على سريرها المصنوع من الخشب وسعف النخيل وتبحلق في الفراغ بعينينٍ شفافتين. من الصعب على من يعرف جدتي قبل عشرة أعوام أن يتعرف عليها الآن. صغر حجمها، وتاهت ملامح وجهها بين تجاعيد جلدها المترهل. لم تتعرف علي، فقد أكل العمر النصف الأخير من ذاكرتها، وأبقى لها حياةً قديمة، تنادي بأسماء أناس لا أحد يتذكرهم، وفي المساء تنتظر أشخاصًا خرجوا في صباح يومٍ قديم، ولم يعودوا بعد.

كنتُ أجلس مع صديقي وأحاول إقناعه بعدم سُميّة "الوزغ" المتسلق جدار الحجرة والمتربص بالذباب، وأن الناس هنا متصالحون مع هذه الزواحف وبقية الكائنات ويشاركونها الحياة بسلام، ولكن صديقي لم يتقبل الفكرة، وظل مترقبًا ومتحفزًا للهرب في حال قفز الوزغ وحاول مهاجمته. خلال ذلك، كان صوت جدتي خارج تلك الحجرة الشعبية يتردد في الفراغ ويصل إلينا متقطعًا وغير مفهوم، وهي ملقاة على سريرها تحت سماء صافية تخبر ابنها مغلوب عن أشياء حدثت قبل أكثر من 50 عاما وكأنها تحدث في هذه اللحظة. إنها تطلب من كل من تقابله أن يساعدها على جمع حاجياتها والهرب للاختباء من القنابل والصواريخ التي تساقطت عليهم في سنة سجلتها ذاكرة المكان الجمعية تحت مسمى "سنة الهَرْبَة" لتصبح حدثًا مفصليًا في تاريخ مدينة جيزان وتهامة بشكلٍ عام. إنها السنة التي قام خلالها الرئيس المصري جمال عبد الناصر بدعم المتمردين اليمنيين ضد نظام الحكم في اليمن عام 1962، حيث امتد تأثير تلك الحرب ليصل إلى داخل الحدود السعودية حيث هذه القرية وغيرها. هرب جدي وجدتي حينها شمالاً برفقة القليل مما تمكنوا من حمله، عادوا بعد أن ابتعد صوت القنابل وجلسوا متحفزين حتى انتهت الحرب عام 1967، ولكن قبل هربهما تمكنت جدتي من دفع آخر أجنتها من بطنها "مغلوب"، ليظهر إلى الحياة هاربًا، وتهرب منه الحياة عندما يكبر. مرض الزهايمر جعل جدتي تعيد ذكريات الهرب القديمة إلى واقعنا وتربطها به، وتنجح بصنع المفارقة في كون أن هنالك تمرد يحدث في الشارع في اليمني الآن، ولكن هذه المرة ليسوا بحاجة لعبد الناصر ولا للهرب.

علّم مغلوب نفسه الحساب وبسبب وضعه لم يتمكن من دخول المدرسة، كما أنه تفنن بحفظ تواريخ الأحداث من حوله، ووجد متعة في جمع الخردوات، وفائدة مادية في جمع عبوات المشروبات الغازية وبيعها، كما أنه يستمتع بملمس الأشرطة المغناطيسية بعد أن ينتزعها من الكاسيتات ويعبئها في صناديق ككرات شَعَرٍ كبيرة، كما أنه يقضي وقته يعدّ الأشياء التي عادةً لا يكترث الناس بعددها، وكأنه يذكر كل من حوله بقضيته ويعتب عليهم عدم عدّه معهم وقت توزيع أوراق الجنسية.

عندما احتفلت السعودية، في عهد الملك فهد، بمرور مائة عام على تأسيسها قام مغلوب، بواسطة أصابعه وذاكرته فقط، في تلك الليلة بحساب عدد الشهور، الأسابيع، الأيام، الساعات، الدقائق والثواني التي تحتويها مئة عام، قام بذلك وهو يتأمل النجوم على فراشه قبل أن يخلد إلى النوم. وفي اليوم التالي وبعد صلاة الظهر ذهب إلى إمام مسجد القرية وأخبره بتلك الأرقام، طلب الإمام من أحد الأطفال أن يجلب آلةً حاسبة، ثم قضى الإمام وقتًا وهو يحاول ويفكر بطريقة حسبها، وعندما فعل، أدهشته النتيجة عندما شاهد نفس الأرقام على الشاشة: "أحسنت يا مغلوب، عبقري!" قال له الإمام ذلك وهو يبتسم له وللجالسين في الصف الأول من المسجد. مسح مغلوب ملامح الفخر بشكلٍ سريع عن وجهه بيده اليمنى، "أخبرهم إذن! أخبرهم أنني حسبت حتى عدد الثواني في المائة عام دون الاستعانة بجهازك هذا، أخبرهم كي ينبهروا ويسألوا عنّي ثم يتذكرونني ويمنحوني الجنسية!" قال ذلك مغلوب ووجهه يشكل ملامح حزنٍ ويأسٍ صادق، فالمصابون بالتوحد أبدًا لا يُجيدون التظاهر بمشاعر غير حقيقية.

ثمة أمر يجب توضيحه، إن مغلوب عندما يتحدث عن المسؤولين الذين يمتلكون القدرة على إصدار هوية سعودية له فهو يكتفي بالضمير "هم" دون معرفة أسماء أو فهم عقلية وطريقة تفكير المندرجين تحت الضمير "هم". ودائمًا ما يطلب من الذين يجيئون من الرياض وجدة لزيارة أقربائهم في القرية أن ينقلوا خبره للمسؤولين عن حالته، يودّعهم عندما يغادرون، وينتظر مجيئهم في العام القادم منتظرًا الأخبار السعيدة، ويجيؤون مرةً أخرى لزيارة أقربائهم ولا تجيء الأخبار السعيدة معهم، يبتلع خيبته ويُذكرهم بأمره قبل أن يغادروا مرةً أخرى.

ليس لدى مغلوب أفكار ثورية، وحتى وإن حاول، لن يتمكن من خلق فكرةٍ مشابهة، وكذا هو الحال مع الآلاف مثله ممن لا يملكون الجنسية أو يملكون جنسيةَ بلدٍ آخر لم يعيشوا فيه، أو الذين يملكون جنسيةً ولكنهم يشعرون أنهم مجرد مستَأجَرين في أية لحظة سيتم تسريحهم، لأن ما يحتاجه المرء كي يفكر بالثورة هو وطن، إذا لم يرتبط المرء بوطن، فكيف يثور؟

قضيتُ وصديقي وقتًا هادئًا وكنتُ أراقب نظراته وهو يتعرف يتحاور مع بعض أفراد القرية، يستمع إلى الأحاديث التي يتطرق إليها الذين يحملون الجنسية السعودية وكأنه يعرف ما يقولونه، ويحاول إخفاء مفاجأته عندما يتحدث مع أبناء عمومتهم الذين يحملون الجنسية اليمنية، ويتنهد عندما يستمع إلى الحكايات التي يسردها من ليس لديه جنسية على الإطلاق، لقد لاحظت لمعة مختلفة تشع في عينيه مع كل حديث يجريه وكل حكاية ينصت إليها. رغم أنه لم يصرّح لي بذلك، شعرتُ وأنا أرى ردود فعله أنه تعرف على حقائق جديدة، وفي اللحظات التي تسبق الخلود إلى النوم، كنت أشاهده يفكر بصمت وحرص، وكأنه يستشعر حركة الأرض، وكأنها ستتحرك فجأة، تهرب وتتركه واقفًا على الفراغ، ويمسي بلا أرض ولا هوية ولا وطن.

في طريق العودة، كان الصمت هو طابع رحلتنا، لم يكن هنالك فائض عن حاجة أفكارنا كي نملأه باللعب. وعندما نحاذي أراضٍ فارغة محاطة بأسوار ولوحات تشير إلى أنها أملاك خاصة، كنت ألاحظ صديقي يرسل نظره إلى تلك المساحات ويمتد مع مداها الشاسع ويستمرّ بقول لا شيء. قد يقطع صمت بسؤال وهو يحاول ربط صور البساطة، البدائية، الفقر، وضياع الهوية التي شاهدها في تلك القرى الحدودية، ويسألني مثلاً عن خالي مغلوب، وأخبره أنه صنع جزءًا مبتهجًا من طفولتي وهو يجري بي على كتفيه كما كان يفعل مع معظم أطفال القرية، رغم عدم استقرار حالته العقلية والنفسية، إلا أن كبار القرية كانوا مطمئنين على سلامة أبنائهم وهم يلعبون معه، كنتُ أصف لصديقي صورًا قديمة من الذاكرة ولكني أعود مجددًا إلى الصمت بعد الانتباه إلى نقطة تفتيش من تلك النقاط الكثيرة المنتشرة على الطريق، فأتوقف وأفتح نافذة السيارة، وأشعر برطوبة تنفذ إلى داخل السيارة مع صوت رجل عسكري يطلب رؤية الهوية.