Everything beyond Assad’s prisons is paradise
جثث تنتظر الخلاص!
علي الإبراهيم
ضمن غرفة صغيرة في طابق تحت الأرض وسط العاصمة السورية دمشق، في سجن فرع فلسطين سيء الصيت ارتجف قلبي عندما سمعت صدى صوت أمي يتردد في المكان وهي تقول بأن الملامح إذا ترسَّخت فيها التجاعيد فهذا دليل على انتصار المأساة علينا.
السجن فرع أمني تديره المخابرات العسكرية السورية، يتسع اليوم لنحو 16 ألف معتقل ومعتقلة. كنت أقبع هناك في زنزانة مساحتها لا تتعدى متر مربع أو اثنين وفي وسطها حفرة صغيرة بمثابة مرحاض. مرّت أسابيع طويلة دون أي تواصل مع الزمن. لكنني يوم سمعت صوت أمي شعرت لأول مرة منذ إلقائي في تلك الزنزانة بجسدي ووجهي.
اشراقة السادس والعشرين من شهر مارس/ آذار ٢٠١١ وهو اليوم الذي ساقوني فيه إلى السجن، تكشف ما كان سراً في الظلام. ثلاثة سيارات ذات لون أسود تصل إلى مكان إقامتي في العاصمة دمشق ومن ثم يترجل منها ثمانية أشخاص يحملون بنادق آلية و يطوقون البناء. يصرخ احدهم بمكبر للصوت وضعه أمام فمه ويقول " طلاع يا عرصة، سلم حالك يا خاين، عم تسمع يا صحفي يا خرى" كان الصوت يعلوا مع مرور الثواني ومعها ترتفع دقات قلبي، اغلقت ستارة النافذة التي اراقبهم منها بعد أن بدأوا بالدخول نحو البناء الذي اسكن فيه وما هي إلا دقائق معدودة ومن ثم كسروا باب شقتي واعتقلوني.
احتُجزت تحت الأرض بتهمة واضحة، التقاط فيديوهات مصورة لانطلاق تظاهرات الاحتجاج الشعبية ضد نظام بشار الأسد، تظاهرات خرجت في الشوارع وصدحت في معظم المدن السورية "حرية، للأبد، غصب عنك يا أسد".
من يعرف النظام السوري لا تفاجئه المأساة المفتوحة في سوريا، حيث لا يشبه هذا النظام أنظمة البلدان التي شهدت الربيع العربي. ومن يعرف بشار الأسد ومن قبله والده حافظ الأسد يعرف جيداً أن حزب البعث الحاكم والقوة العسكرية المتمثلة بالأمن والجيش التي تتوحش في قتل السوريين والسلطة التي تستولي على مفاصل الدولة ليس من ثقافتهم سماع حناجر السوريين تصدح بالحرية أو حتى التفكير بهذه الكلمة.
يصل مسامعي وأنا في الزنزانة صوت عجيب يمتزج فيه صوت الجنازير التي تستخدم لغلق الأبواب مع صراخ السجانين في الطابق الأعلى من السجن على غير المعتاد، و معها أتحسس ازدياد التجاعيد في وجهي. يسير السجانون وهم يضربون بالعصي والأكبال على أبواب الزنازين، ليأتي الصوت من الخارج صارخا: هل يوجد لديكم "جثث" لكي نتخلص منها؟.
لم يكن لدي قدرة على معرفة الزمان في سجون النظام السوري تحت الأرض، بيد أنه وقبل نقلي بأيام من المنفردة إلى مهجع مشترك، وخلال جلسة تحقيق شبه يومية غرس المحقق اصابع يده في ذقني وصرخ بصوت مرتفع" وهي تلت اشهر صرلك عنا ، لايمت رح تضل ساكت وما تحكي، شعب ما بيجي غير بالدعس، والله لخليك تتمنى الموت وما تلاقيه، خلي الصحافة تنفعك يا حيوان".
في الزنزانة الكبيرة رأيت شيئًا آخر. كان السجانون يأتون يوميا من أجل تسلم جثث المعتقلين الذين يموتون داخل الزنازين إما مرضا أو خوفا أو جوعا أو متأثرين بجروح التعذيب داخل السجن، و بشكل يومي ما لا يقل عن خمسة جثث يلقيها المعتقلين على بوابة الزنزانة.
منذ اندلاع الثورة السورية التي طالبت بالحرية والعدالة وإسقاط نظام بشار الأسد مات كثيرون في مراكز الاعتقال الخاضعة لإدارة المخابرات السورية سيئة السمعة. الإحصاءات بعد تسع سنوات على الثورة توثق نحو 130 ألف معتقل ومغيب قسرا يتعرضون لشتى أنواع التعذيب والحرق، وذلك حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي أكدت أيضا في إحصاءاتها أن أكثر من 14 ألف شخص -بينهم أطفال ونساء- قتلوا تحت التعذيب داخل سجون النظام السوري منذ مارس/آذار 2011 وحتى مارس/آذار 2020.
تحتجز سلطات النظام السوري المعتقلين في ظروف لا إنسانية، بوضعهم في زنازين قذرة مكتظة لشهور أو حتى سنوات. كان الطعام الذي يقُدم لنا وما يزال يقدم غير كاف لدرجة أن جميع المعتقلين عانوا من الجوع. كانت الحرارة والرطوبة عاليتين، لدرجة أن ملابس المعتقلين تحللت بعد أسابيع قليلة من بقائهم في المعتقل. في الإفطار، اعتدنا تناول القليل من المربى لكن الكمية كانت قليلة جداً إلى درجة أن السجان كان يخلطها بالماء. في الغداء كنا نتناول البرغل لكنه لم يكن مطهو جيدا. وجبة العشاء تتكون من عدد من حبات البطاطس المسلوق لمجموعة من 110 سجناء، وقتها اعتدنا أن نحصل على 5 أو6 أرغفة متعفنة يوميا.
في الزنزانة التي كان عرضها من 4 إلى 5 أمتار وطولها 10 أمتار لم نجد مكانا للاستلقاء على الأرض أو الجلوس. لا يسمح لنا قط بمغادرة الزنزانة أو استنشاق هواء منعش. كانت الزنزانة لها باب حديد صغير تعلوه قضبان. لم تكن الغرفة مضاءة. عند باب المدخل من الخارج لمبة بلون أصفر ترسل نورا خافتا من بين قضبان الباب... كل المعتقلين ، لم يكونوا يرتدون ملابس، بسبب ارتفاع درجة الحرارة ومعدل الرطوبة. كانوا جميعا بالملابس الداخلية.
توجد في سورية عشرات الأفرع الأمنية إضافة إلى مراكز اعتقال عسكرية تم تشكيلها مع بعد العام ٢٠١١ وذلك بهدف قمع الثورة السورية والقضاء عليها، كانت مهمة هذه الأفرع الأمنية اعتقال وتعذيب كل ناشط أو معارض خرج في مظاهرات سلمية أو كتب منشورات ضد النظام تطالب بالحرية، وكانت إدارة الأفرع الأمنية إضافة إلى طاقم السجانين تمارس بشكل يومي وعلى مدار 24 ساعة أفظع أنواع التعذيب بحق المعتقلين لتصفيتهم داخل المعتقلات بحجة أنهم إرهابيون.
في زاوية المهجع انهار رجل تجاور الخمسين. بطريقة ما زحزح السجناء له مكانا فجلس يضرب بيده على رأسه ويمررها على شعره ويصرخ" مشان الله انا مريض ومعي السل" بعد اسبوع توقف عن الصراخ، كانت كلماته الاخيرة قبل أن يصبح جثة هامدة " والله مريض، ساعدوني يا ناس" رفضت سلطات النظام السوري توفير المساعدة الطبية والأدوية اللازمة للمعتقلين ومع إصابة المعتقلين بالمرض جراء نقص الطعام والهواء النقي والراحة، ومع العيش في أوضاع الاكتظاظ هذه، تنتشر الأمراض بسهولة، كما أن التعذيب الذي عانى منه المعتقلين تسببا، أيضا، بالموت.
كثيرون يموتون بعد ضرب مبرح أو تعذيب، خلال فترة الاعتقال وأشد حالات التعذيب تحدث خلال جلسات التحقيق، غالبا في غرف تحقيق منفصلة، أو غرف تعذيب، أو في ممرات وردهات في بعض مراكز الاعتقال الصغيرة. خلال هذه الجلسات، عادة ما يريد المحققون والضباط من المعتقلين الاعتراف بالمشاركة في تظاهرات، وذكر أسماء آخرين شاركوا في التظاهرات ونظموها، والاعتراف بامتلاك أسلحة واستخدامها، وفي بعض الحالات تقديم معلومات عن التمويل الخارجي المزعوم للتظاهرات.
لم يكن هناك مكان للنوم، لذا كنا ننام بوضعيّة الرأس نحو القدمين. نظرا لعدم وجود أماكن كافية حتى للنوم بهذه الكيفية كنا ننام بعضنا فوق بعض، مع رؤوسنا على أقدام الآخرين، في صفين. مات شخصان مختنقين بسبب هذه الطريقة في النوم.
بعد وفاة المعتقلين في سجون النظام السوري تظل جثثهم أحيانا في الزنزانة لمدة يوم أو يومين قبل نقلها. ثم، تحمّل في شاحنات نقل صغيرة إلى مستشفى عسكري في غالب الأحيان يكون مستشفى المزة العسكري أو ما يعرف بـ 601 أو مستشفى تشرين العسكري وذلك لتجهيز وتغليفها، في معظم الأحيان، كان المعتقلين أنفسهم مجبرين على المشاركة في حمل الجثث من السجن إلى الشاحنات.
رأيت مرّة سبعة جثث... كانت الكدمات تغطي جميع أنحاء الجثث لا سيما منطقة البطن والظهر، أعطاني الحارس بطانية لففت فيها الجثة... كتب الحارس اسم ورقم مكون من أربعة خانات على رأس الجثة، ومن ثم كتب اسمه مجدداً على قطعة ورق وأدخل البطاقة في الملابس الداخلية للجثة... حملت الجثمان ووضعته في مدخل الفرع الأمني. جاءت شاحنة وحملت الجثث... نقلت 18 جثة خلال 7 أيام ومن ثم انهرت، وحين استعدت وعيي، كنت ملقى فوق جثث. الجثث وأنا كنا على الرصيف. أعتقد أنهم كانوا ينتظرون شاحنة لحملنا. رأوا أنني لست ميتا. صدموني بالكهرباء ليتأكدوا، ومن ثم أعادوني إلى زنزانتي.
جميع الجثث يتم نقلها في شاحنات إلى المستشفى العسكري، وترسل للحرق أو الدفن في أرض عسكرية في الصحراء بعد تصويرها ووضع رقم على جبين الجثة أو الجسد، رقم يكتبه ضباط الفروع الأمنية على ملصقات طبية تلصق بجثامين المعتقلين، سواء على الجثامين مباشرة أو على بطاقات توضع في الملابس الداخلية للمعتقلين.
في يناير/كانون الثاني 2014، غادر منشق سوري يطلق اليوم عليه أسم "قيصر" حاملا آلاف الصور على أقراص ممغنطة وأقراص تخزين صغيرة. يظهر الكثير من الصور جثث معتقلين ماتوا في مراكز الاعتقال السورية. الصور أظهرت العديد من الجثث المصابة بالهزال والجوع، وظهرت عليها كدمات وندوب وعلامات أخرى من التعذيب. كما ظهر على بعضها جروح مفتوحة وغائرة.
مع بزوغ الفجر يقوم كل فرع أمني أو مركز اعتقال بتجميع جثث الضحايا الذين تم تعذيبهم وقتلهم خلال 24 ساعة الماضية وإرسالها إلى أحد المشافي العسكرية ليتم تصويرها وتغليفها وإرسالها إلى مقابر جماعية تحت رقابة أمنية مشددة من قبل عناصر الأمن التابعة لنظام بشار الأسد.
في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 أوصى قرار الأمم المتحدة 2254 بشأن سوريا بإجراءات بناء الثقة، التي تضمنت إخراج المعتقلين من السجون، لكن هذا الأمر لم يحدث أبدا، وجميع المعتقلين الذين خرجوا من سجون النظام إما من خلال عمليات تبادل للأسرى بين المعارضة والنظام، أو من خلال دفع الرشى للمسؤولين لدى النظام من أجل إخراجهم.
اليوم وفي ظل انتشار مرض كورونا وتفشيه بسرعة في جميع أنحاء العالم عادت ضرورة اطلاق سراح أعداد كبيرة من السجناء إلى الواجهة. بينما يلتزم نحو ملياري شخص بالحجر الصحي ولا يبرحون منازلهم، يستمر النظام السوري بلا مبالاته تجاه المعتقلين بل بالعكس فإنه يغالي في ملء سجونه ويلقي بأعداد جديدة فيها.
على هذه الخلفية دعت منظمات إنسانية عدة من بينها منظمة حقوق الإنسان الأمم المتحدة للضغط على النظام السوري لاتخاذ إجراءات وقائية لحماية السجناء والمعتقلين. بعدها أصدر النظام مرسوم عفو قال فيه أنه سيطلق سراح أعداد كبيرة من السجناء. بهذا نجح بتخفيف حدة النقد الموجه إليه حتى ولو مؤقتًا. لكن تقريرًا جديدًا صدر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان يؤكد إن النظام السوري أفرج عن 96 حالة فقط من بين قرابة 130 ألف معتقل، بعد شهرين من صدور مرسوم العفو، وبنفس الوقت اعتقل 113 حالة جديدة.
وكلما سمعت شخصًا ما يتحدث عن فايروس الكرونا أشعر بوخزة في قلبي. أتذكر رفاقي في المهجع والباقين هناك. لا شك أنه ومن شأن تفشي كوفيد-19 في السجون التابعة للنظام السوري انعكاسات كارثية على المعتقلين، حيث إن الكثيرين منهم يعانون من حالة صحية متدهورة واحتُجزوا بشكل تعسفي لسنوات، ويعانون من ضعف المناعة بسبب التعذيب الذي تعرضوا له والجوع الذي يعانون منه، مما يرجح أن تكون معاناة هؤلاء السجناء أشد من غيرهم من سكان سوريا والعالم. ولكن الخطر الأكبر يأتي من الازدحام الشديد الذي يمثل البيئة المناسبة لانتشار العدوى. لا أعتقد أن أحدًا منهم سيتوفق في الإفلات من قبضته.
منذ أسابيع حذرت منظمة العفو الدولية دون جدوى من أنه يجب على السلطات السورية أن تتعاون تعاوناً كاملاً مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لمنع انتشار فيروس كوفيد 19 في السجون، ومراكز الاحتجاز، والمستشفيات العسكرية في البلاد.
أيُّ مكان آخر سيكون أفضل وأرحم من تلك الأقبية. عندما فُتح باب الزنزانة وصرخ بأسمي للنجاة من هذا الجحيم ليل الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١، تنفست الصعداء، يومها لم أتمكن من رؤية الناس حولي بل رأيت ديداناً، كانت تتلوى وتختلط مع بعضها بعضاً. لم أكن قادراً على المشي على قدمي الاثنين فليس هناك متسع لذلك، كان جميع المعتقلين بجانب بعضهم، وتحتهم جثث هامدة تنتظر الصباح.