Hoppa till huvudinnehåll
Lebanon
12 min läsning

تَبَعيّةُ الطوائفِ لِقُوى الخارجِ وانحلالُ الجماعةِ الوطنيّة

Credits مقال: احمد بيضون 25 juni 2021

واتَتْني فرصةٌ سابقةٌ لمباشرةِ مقارنةٍ أرى العودةَ إليها مفيدةً للموضوع الذي أنا اليومَ بصدده. وغايةُ المقارنةِ إبرازُ التضادِّ ما بين ضعفِ الآثارِ الاجتماعيّةِ السياسيّةِ التي خلّفها تعاونُ القياداتِ المسيحيّةِ مع الحكومةِ الإسرائيليّةِ في أثناءِ الحربِ اللبنانيّةِ من جهةٍ وعمقُ التحوّلاتِ التي أحدثَها النفوذُ الإيرانيُّ في التشيّعِ اللبنانيِّ من الجهةِ الأخرى. أشيرُ بطبيعةِ الحالِ إلى الحلفِ المعادي للفلسطينيّين الذي عقدَهُ زعماءٌ مسيحيّون مع إسرائيل منذ الجولاتِ الأولى على جبهاتِ بيروت ثم مثَّلَ اجتياحُ سنة 1982 لحظةَ الذروةِ فيه وبدايةَ نهايتِهِ في آن. أشيرُ أيضاً إلى العلاقةِ التي دامت مدّةً أطولَ بكثيرٍ، في جنوبِ لبنان المحتلِّ، ما بيْنَ أجهزةِ الاحتلالِ والقيادةِ المسيحيّةِ لأتباعهِ المحليّين. لم يَبْقَ شيءٌ، على التقريبِ، من هذه العلاقةِ سوى الشعورِ المسيحيِّ بالمرارةِ حيال الأضرارِ التي تخلَّفَتْ عنها في العلاقاتِ بين الطوائفِ وفي مكانةِ الأقلِّيّةِ المسيحية في المَشْرِقِ، وهي أضرارٌ فادحة. ويجِدُ غيابُ أيِّ مكتسَبٍ وأيِّ تحوّلٍ إيجابيٍّ تقريباً تفسيراً له، في الحالةِ المشارِ إليها، في المواجهةِ المنذورةِ للعقمِ ما بين غطرسةٍ إسرائيليّةٍ نابذةٍ وخصوصيّةٍ مسيحيّةٍ استبْقَت شيئاً من الحرصِ على البقاءِ سيّدةَ نفسِها بين ظهرانيها. ويتمثّلُ الفارقُ ما بين هذه الحالةِ والعلاقةِ التي أنشأها الشيعةُ اللبنانيّون بإيران الخمينيّةِ في أنّ هذه العلاقةَ الأخيرةَ جسّدَتْ مشروعَ مجانسةٍ أيدلوجيّةٍ حفزَهُ رفْعٌ للسَويّةِ الإجماليّةِ للطرفِ اللبناني. فلا وجوهُ التنافرِ ولا عدمُ التناسبِ (وكلاهما حاصلٌ فعلاً) ما بين الطرفين اللبنانيّ والإيرانيّ هما ما شكّلَ، ولا يزال يشكّلُ، مكمنَ الإشكالِ الجسيمِ في العلاقة. وإنّما يتمثّلُ هذا المكمنُ في الأفقِ المظلم الذي يفتحُهُ أمامَ الطرفِ اللبنانيِّ اتّخاذُهُ أداةً من جانبِ إيران في معركتها المفتوحةِ في المجالِ الدولي. وهو يتمثّلُ أيضاً في تعميقِ الخنادقِ المختلفةِ الصوَرِ التي راحت تفصلُ الشيعةَ اللبنانيّينَ عن طوائفَ أخرى في بلادهم. أخيراً تُحْدِثُ "الأيرنةُ" الجزئيّةُ للشعائرِ ولأساليبِ العيشِ والسلوكِ كسوراً في جسمِ الطائفةِ نفسها لا يزال يموِّهُها الحضورُ الكثيفُ والغامرُ لحزبِ الله ولكنّ عمْقَها يبقى، في ما يتعدّى التمويهَ، بلا سابقة.

***

عليهِ يتّضحُ أنّ علاقةَ التبعيّةِ التي يحصلُ أن تنشئها جماعةٌ طائفيّةٌ لبنانيّةٌ مع قوّةٍ إقليميّةٍ أو دوليّةٍ تتّخذُ هيئاتٍ تتنوّعُ بتنوُّعِ الحالات. فيسَعُ هذه العلاقةَ أن تبقى محصورةً في المستوى السياسيِّ أو السياسيِّ المادّي. ويسَعُها، بخلافِ ذلك، أن تتّخذَ بُعْداً رمزيّاً أو أيدلوجيّاً يمنحها قوّةَ نفاذٍ وتحويلٍ استثنائيّة. هذه الطُرُزُ الثلاثةُ من الإلحاقِ تفعلُ متآزرةً أو متفرّقةً ويسَعُها أيضاً أن تتنافس. ولا يصِحُّ اعتبارُها متساويةً في عمقِ الفعلِ ولا في مدّتِهِ ولا في خطرِ نتائجِه. فإنّ العبورَ من حلفٍ سياسيٍّ إلى آخرَ أسهلُ عادةً من تبديلِ النظامِ الرمزي. وكل طرازٍ من طُرُزِ الحوافزِ هذه يؤتي التزاماً أو ولاءً ذا خصائصَ ينفردُ بها. ولقد ازدادَ في طوائفَ لبنانيّةٍ عدّةٍ – وإنْ على تباينٍ في الدرجةِ – تكثيفُ الشبكةِ الرمزيّةِ الطائفيّةِ وتفريدُها. ويفضي هذا إلى نقصٍ من حظوظِ التواصلِ والتفاهمِ والتخالطِ بين الطوائف. ويفاقِمُ من هذه المحصّلةِ أنها تكوّنَت، منذُ سنيِّ الحربِ، على قاعدةٍ من الخصومة. وهي تمثّلُ عاملاً أشدَّ تأثيراً في حظوظِ الحياةِ المشتركةِ من الاختلاطِ أو الانفصالِ في المكانِ الواحدِ ومن التوافقِ أو التخالفِ في السياسةِ ومن تشارُكِ الأذواقِ والميولِ في مجالِ الثقافة.

لا تتساوى الطوائفُ اللبنانيّةُ اليومَ، بالتالي، ولا هي كانت متساويةً في الماضي في درجةِ تبعيّتِها للخارج. وقد تنوّعَت صيغُ هذه التبعيّةِ أيضاً. وبحسَبِ المشروعِ الذي يسعى في تنفيذهِ السيّدُ غيرُ اللبنانيِّ، يكونُ من شأنِ علاقةِ التبعيّةِ أن تعرّضَ البلادَ إلى خطرِ دمارٍ داهمٍ، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، أو أن تبقى في حدودِ التحسينِ المختلفِ الوجوهِ لأحوالِ الطائفةِ التابعة. لا يتساوى الأمرانِ للوهلةِ الأولى. غيرَ أنّهما يتساويانِ إذا نُظِرَ إليهما من زاويةٍ أخرى. ففي الحالين، ننتهي إلى تبايناتٍ تعزّزُ الاستقطابَ الطائفيَّ بَعْدَ حين. وهو ما يَمْتَحِنُ تماسُكَ الدولةِ والاجتماعِ الوطنيِّ بمقدارِ ما يعجزُ النظامُ الطائفيُّ (وهو يعجزُ إجمالاً) عن تكييفِ نفسِهِ تبعاً للتباينِ المستجَدّ. هذا مع العلمِ أنّ الواحدةَ من الفئاتِ اللبنانيّةِ لا تجِدُ نفسَها عادةً في الخيارِ من أمرِ هويّةِ السيّدِ ومطالبِه. وإنّما الأقربُ أن نتصوّرَها ملزمةً باعتمادِ الراعي المُتاحِ وبقبولِ ما يعرِضُهُ الطرفُ القويُّ من طرفَي العقد.

يغدو الدعمُ الذي تقدّمُهُ قوّةٌ خارجيّةٌ لفريقٍ من أفرقاءِ الطائفيّةِ السياسيّةِ في لبنان مورداً لا يستغنى عنه بمقدارِ ما يزيدُ زيادةً مبالغاً فيها في الوزنِ النسبيِّ للطائفةِ المستهدفة. فإنّ التخلّي عنه أو خسارتُهُ قد تصبحُ، بفعلِ هذه المبالغةِ، بمثابةِ الكارثة. ويجبُ أن تُفْهَمَ المبالغةُ المذكورةُ بمعنىً يشتَمِلُ على الوزنِ الماديِّ وعلى الوزنِ المعنويِّ في آنٍ وتندرجُ فيه وجوهٌ شتّى من وجودِ الجماعة. فهذه المبالغةُ تؤثّرُ في علاقاتِ الطائفةِ بمكوّناتِ البلادِ الأخرى وتصلُ مفاعيلُها إلى الحياةِ اليوميّةِ للأفرادِ وإلى تقويمِهِم لذواتِهِم ولنمطِ انتمائهم إلى جماعتهم وإلى رؤيتهم للجماعاتِ والتشكيلاتِ الأخرى. ولا بدَّ من النظرِ إلى ضآلةِ حجمِ البلادِ وإلى الشقوقِ التي تتخلّلُ المجتمعَ وإلى الحدودِ التي تفرضها هذه الشقوقُ على تكوّنِ السلطةِ المركزيّةِ وممارستِها وإلى الوضعِ الجغراسيِّ الذي وجدَت البلادُ نفسَها فيه من يومِ أنْ أنشئتْ دولةُ إسرائيل في سنةِ 1948. فهذه كلُّها عواملُ ظلّت تيسِّرُ استتباعَ هذه أو تلك من المجموعاتِ الطائفيّةِ وظلّت تمثّلُ إغراءً للقوى الخارجيّةِ المستفيدة من هذا الاستتباعِ أيضاً.

***

في الجماعةِ الطائفيّةِ المستهدفةِ، تتكوّنُ نواةٌ صلبةٌ وضخمةٌ تنحو إلى الهيمنةِ واحتكارِ التمثيلِ السياسي. تعزَّزُ هذه النواةُ بوسائلَ ومؤسّساتٍ متنوّعةٍ تتعذّرُ منافستُها على أيِّ تجمُّعٍ معارضٍ لها ينشأُ بالاستنادِ إلى المواردِ الذاتيّةِ للجماعةِ الطائفيّةِ وحتّى إلى مواردِ الداخلِ وَحْدَها عموماً. وتشتملُ الوسائلُ المقتناةُ على جهازٍ سياسيٍّ وآخرَ إعلاميٍّ ودعَويٍّ وثالثٍ خِدْميٍّ متنوعِ الفروعِ وتشتملُ عندَ اللزومِ على جهازٍ عسكريٍّ ذي أذرُعٍ استخباريّةٍ وأمنيّة.

هكذا تنشأُ حالةٌ من التبعيّةِ العميقةِ للراعي الخارجيِّ تصبحُ متجذرةً في البنى الداخليّةِ للجماعةِ وفي نمطِ حياتها ومصادرِ معاشها. ويشملُ ذلك تعديلاً في بنيةِ الانتماءِ بتراتبِ وجوهِها ويشملُ زيادةً في كثافةِ الطقوسِ من دينيّةٍ وغيرها ومبالغةً في مشهديّتِها، بما يؤولُ إلى التوكيدِ المفرطِ للاختلاف. يشملُ ذلك أيضاً أنواعاً مختلفةً من الإسنادِ والتضامنِ يبذلها الراعي فتكونُ لها مفاعيلُ معنويّةٌ أو سياسيّةٌ وأخرى اقتصاديّة. وهو ما يجعلُ الفكاكَ من التبعيّةِ هدفاً مقترناً – على ما ذُكرَ – بضروبٍ مختلفةٍ من الخسائرِ وبتراجعٍ في الموقعِ العامِّ يصعبُ تحمّلُه. ولا يخلو من مفارقةٍ كونُ هذا الاستلابِ يسَعُهُ أن يتيحَ لجماعةٍ طائفيّةٍ ذاتِ حجمٍ محدودٍ ومواردَ محدودةٍ بالضرورةِ التحوّلَ، في ظاهرِ حالها، إلى طرفٍ ذي وَقْعٍ إقليميٍّ بل إلى طرفٍ ذي وَقْعٍ دوليٍّ أيضاً. ويأتي تصرّفُ أطرافٍ أخرى حيالَ الجماعةِ ليثبّتَها شيئاً فشيئاً في هذا الشعورِ وذلك على الرغْمِ من افتقارِهِ إلى أسسٍ موضوعيّةٍ تتّصفُ بالملاءمةِ والديمومة.

***

على وجهِ الإجمالِ، تقترنُ التبعيّةُ للخارجِ، بحالةِ استنفارٍ عدائيٍّ في الجماعةِ تقفُ بها في مواجهةِ خصمٍ أو أكثر، في الداخلِ أو في الخارجِ أو في كليهما... إذ لا معنى للإسنادِ الإستراتيجيِّ الواسعِ النطاقِ والعالي الكلفةِ من جهةِ الراعي (على اختلافِ وجوهِ الكلفةِ) ما لم تكن حالةُ العداءِ هذه قائمةً توجبُ قيامَ الجماعةِ اللبنانيّةِ بدورٍ فيها وتوجبُ تقبُّلَها لتبعاتِ هذا الدورِ مهما تكن مدمّرة. ويعالَجُ الشعورُ الطبيعيُّ بالخطرِ بصنوفٍ قد تصبحُ عارمةً من التعبئة. وتَقْبلُ النواةُ الصلبةُ خصوصاً احتمالَ الدمارِ وتَجْهَدُ في تسويغِهِ لنفسها أوّلاً وللجماعةِ كلِّها ثانياً. وذلك لارتباطِ قوّتها وهيمنتها هذا الارتباطَ المفرطَ برضا الراعي الخارجي. ويُبْطِلُ حجمُ هذه النواةِ وقوّتُها كلَّ فاعليّةٍ محتملةٍ لمعارضيها في صفوفِ الجماعة. فما لم يحصلْ تغييرٌ بعيدُ الأثرِ في السياقِ السياسيِّ الأوسعِ، يبقى صعباً على المعارضينَ أن يحتشدوا في مشهدِ تضامنٍ مضادٍّ لإرادةِ النواةِ المهيمنة. وتفعلُ في صفوفهم عواملُ تفتيتٍ مألوفةٌ من جميعِ الأنواعِ من غير أن يكونَ في متناوَلِهِم ما يعزّزُ احتمالَ التضامنِ بَعْدَ التصدّي لعواملِ التفتيتِ هذه. وتفعلُ في صفوفهم أيضاً نوازعُ الانتهازيّةِ والتردّدِ وقلّةِ الثقةِ في الحلفاءِ وتردعُهُم الضغوطُ والخوفُ من النواةِ وسائرُ ما تحت يدها من مُغْرياتٍ أو من وسائلِ إلزامٍ بالانصياع.

تبعاً لما سبقَ كلّه، يتعذّرُ تماسكُ السلطةِ المركزيّةِ على خياراتٍ أساسيّةٍ في السياسةِ الخارجيّةِ وفي الدفاعِ الوطنيِّ ويتعذّرُ توصّلُها أيضاً إلى سياسةٍ متماسكةٍ للإنماءِ تتعدّى منطقَ المُحاصّة. وأهمُّ ما يحدِثُهُ تكوّنُ النواةِ الضخمةِ التابعةِ في الطائفةِ إلغاءُ البدائلِ المرشَّحةِ لتمثيلِ الطائفةِ في السلطةِ المركزيّةِ وحصرُ هذا التمثيلِ، إلى أجلٍ غيرِ مسمّى، أو ما هو بمثابةِ الحصرِ، في طرفٍ واحد. هذا الطرفُ قد يتَّخِذُ لزعامتِهِ صورةَ التنظيمِ أو التكتّلِ وتستحيلُ عادةً مجاراتُهُ في مطالبَ وخياراتٍ تمليها تبعيّتُهُ كما يمليها شعورُهُ بضرورتهِ المطلقةِ لتكوينِ السلطةِ وباستحالةِ استبدالِه. إلى ذلك تصبحُ وحدةُ مؤسّساتِ الدولةِ من إدارةٍ وقوىً مسلّحةٍ خصوصاً هشّةً، معرّضةً للتضعضعِ عند ظهورِ الصفةِ الطائفيّةِ للانقسامِ السياسي. وذاك أن فقدانَ التماسكِ في القمّةِ وسيادةَ التجاذبِ الطائفيِّ في المحيطِ يمتحنانِ تمسّكَ هذه المؤسّساتِ بوحدتِها وبالصورةِ المفترضةِ لمهمّتها. ويحدُّ ذلك كلُّهُ كثيراً من فاعليّتِها في الأزماتِ ومن هيبةِ القانونِ عموماً. أخيراً يسودُ الاتّجاهُ إلى توزيعٍ طائفيٍّ للمواقعِ في هذه المؤسّساتِ ويستقرُّ الاستعدادُ لتقاسُمِها أشلاءً عندَ الضرورة. وهو ما يعزّزُ الشكَّ في قدرةِ الدولةِ على الاستواءِ حَكَماً في النزاعاتِ أيْ في قدرتِها على القيامِ بالمهمّةِ التي تُعتبرُ واحدةً من الضروراتِ الموجبةِ لوجودِ الدولةِ أصلاً. في المساقِ نفسِهِ، يملى منطقٌ طائفيٌّ على عملِ مَرافقِ الخدماتِ العامّةِ وخصوصاً على التربويّةِ منها ويجري إبطالُ فاعليّتِها أو إنقاصُها، في الأقلِّ، بما هي وسائطُ لانتماءِ المواطنينَ إلى الدولةِ الواحدةِ ولاستواءِ هذه الأخيرةِ مرجعاً أخيراً واحداً لحفظِ التوازنِ الحقوقيِّ بيْنَ أجنحةِ المجتمعِ ولحمايةِ التعدّدِ فيهِ وتشجيعِ التمازجِ بيْنَ عناصرِهِ فضلاً عن إدارةِ انقساماتِهِ وتناقضاتِه. وينتشِرُ الفسادُ والتشكيلاتُ المعاديةُ للمجتمعِ جنباً إلى جنبٍ مع ازدهارِ الصفِّ الطائفيِّ أو الخاصِّ من مؤسّساتِ العملِ الاجتماعيِّ السويّ. وذاكَ أنّ أنواعاً شتّى من الجرائمِ والجِنَحِ تحظى بالحمايةِ والرعايةِ في نطاقِ المنظومةِ الطائفيّةِ السياسيّةِ ومبادلاتِ أطرافِها. هاتانِ الرعايةُ والحمايةُ تَبْقَيانِ خافِتَتَي الجَرْسِ عادةً ولكنّهُما تخرُجانِ إلى العلنِ حالما يدعو إلى ذلك داعٍ ذو وجاهة.

تجُرُّ التبعيّةُ حُكْماً إلى مواجهةٍ داخليّةٍ لا تخلو من نَوْباتِ عنفٍ قابلةٍ للتصعيدِ وللتحوُّلِ، عندَ الاقتضاءِ، إلى نزاعٍ مسلّح. فإنَّ الإقبالَ على التبعيّةِ مُعْدٍ ينتشرُ من طرفٍ إلى آخرَ، طلباً لحفظِ التوازنِ ولحمايةِ النفْس. ذلك، بطبيعةِ الحالِ، على أن يكونَ الحامي متاحاً ويبدو اللجوءُ إليهِ مجزياً للجهتين. ويمكنُ أن تحصلَ المواجهةُ بين أطرافِ الداخلِ استباقاً لإخلالِ الدَوْرِ الخارجيِّ إخلالاً يُحتملُ أن يصبحَ فادحاً بالموازينِ الداخليّة. ويمكنُ أنْ تحصلَ لتصحيحِ الخللِ بَعْدَ حصولِهِ إذا بدتْ فرصةٌ سانحةٌ لذلك. ويكُونُ الداعي إلى المواجهةِ، بالتالي، امتناعُ أطرافٍ داخليّةٍ معيّنةٍ، لدواعٍ جوهريّةٍ تخصّها، عن الاعترافِ للطرفِ المدعومِ بالتفوّقِ الذي يتيحُهُ لَهُ الدعمُ الخارجي. ويرتسمُ التوجّهُ نحوَ النزاعِ أيضاً بسببِ تقبّلِ الأطرافِ الداخليّةِ المختلفةِ لرعايةِ أطرافٍ خارجيّةٍ متعاديةٍ في ما بَيْنَها. وهو ما يجعلُ النزاعَ الداخليَّ المحتملَ أو الحاصلَ، في مستوىً من مستوياتِهِ، نزاعاً مقنّعاً بينَ الرعاةِ الخارجيّينَ ويرهِنُ الخروجَ منهُ بالتوافقِ في ما بينَ هؤلاء.

لا تتغيّرُ هذه القابليّةُ للتبعيّةِ وما يليها من تفتيتٍ للجماعةِ الوطنيّةِ اللبنانيّةِ أو من مَنْعٍ لتوطُّدِها إلا بتغييرٍ في منظومةِ العلاقاتِ الإقليميّةِ وفي سياقِها الدوليِّ ربّما حصلَ بنتيجةِ التغييرِ الداخليِّ لتوجّهاتِ واحدٍ من أطرافِ هذه المنظومةِ الأساسيِّينَ أي بنتيجةِ تغييرٍ أساسيٍّ في النظامِ السياسيِّ لإحدى دولِ المنظومةِ أو في خياراتِه. قد يحصلُ هذا التغييرُ في المنظومةِ أيضاً بنتيجةِ معالجةٍ ما لحالةِ العداءِ المتحكّمةِ بالمنطقةِ وإنشاءِ صيغةٍ للتعاونِ فيها توفّرُ حمايةً لأطرافها، ومن بينِها لبنان، بما هي دولٌ، وتَدْرَأُ نزوعَ دولةٍ أو أكثر من دولِ المنطقةِ أو من الدولِ النافذةِ فيها إلى استتباعِ جزءٍ من المجتمعِ الوطنيِّ لدولةٍ أخرى أو أكثر.

***

تشاءُ "السياسةُ الواقعيّةُ" أن يكونَ اللبنانيُّ مُغْرىً بالانتماءِ (بما في ذلك وجودُهُ السياسيُّ) إلى جماعةٍ من المؤمنينَ تُعَدُّ بمئاتِ الملايين (وقد باتَتْ تتقبّلُ انتماءَهُ هذا) أكثرَ مما يُغْريهِ الانتماءُ إلى بلادٍ صغيرةٍ لا يتجاوزُ تعدادُ أهاليها ملايينَ أربعةً وتُواجِهُ جماعتَها الوطنيّةَ متاعبُ مهولةٌ إذْ تحاولُ البروز. وحين توجَدُ دولةٌ كبيرةٌ وغنيّةٌ تَعْرِضُ الاضطلاعَ بشؤونِكَ من بعيدٍ، يمكِنُ أن يبدو لكَ الانتسابُ إليها أقوى جاذبيّةً من الانتسابِ إلى دولةٍ متهاويةٍ، تراها، من موقعِكَ منها، مرتكبةً لسائرِ الكبائرِ بما في ذلكَ تلكَ التي تٌعْتَبَرُ هذه الدولة أهزَلَ من أن تقوى على ارتكابِها. يزيدُ من صحّةِ هذا القولِ أن العولمةَ، بما تُظهرهُ من كفاءةٍ في التقريبِ ما بينَ أطرافِ الكرةِ، قد جَعَلَت هذينِ الخيارينِ وارديْنِ كِلَيْهِما فعلاً. غيْرَ أنّ مشْكِلاً يعترِضُ هذا المنطقَ، في ما يتعدّى الظاهرَ من وضوحٰهِ وبراءتِه. وهو أنّهُ لا يلائمُ أبداً ما يسمّيهِ اللبنانيّونَ حياتَهُم المشتركةَ ويتغنّونَ، دونَما وجهِ حقٍّ، بامتيازِهِم به. بِخِلافِ هذا الزعمِ الأخيرِ، يوشِكُ المنطقُ المشارُ إليهِ أن يقصّرَ الحياةَ بعمومِ معناها هَهُنا: حياةَ الذين ما زالوا مقيمينَ على هذه الأرضِ بمَنْ فيهم من اعتَدّوا بهذا المنطقِ واعتمَدوه.

في كلِّ خيارٍ ينحازُ إلى السلمِ الأهليِّ في لبنان، من الطبيعيِّ ألّا يُقْبَلَ التضخُّمُ المفْرِطُ لوزنِ جماعةٍ أو طائفةٍ بفِعْلِ دعمٍ خارجيٍّ لا يمْكِنُ أن يكونَ غيرَ ذي غرضٍ سياسيٍّ إستراتيجي. ولا ريبَ أنّ أكثرَ من طائفةٍ واحدةٍ ستَعِدُّ نَفْسَها خاسرةً إذا فُرِضَ عليها التخلّي فعلاً عن هذه الإستراتيجيّة. وتكفي الإشارةُ إلى الخسارةِ الماديّةِ من دونِ ذكرٍ لما سيصيبُ غرورَ الجماعةِ وما سيفقَدُ من قوّتها. فإن عشراتٍ من ألوفِ الأُسَرِ اللبنانيّةِ تعيشُ ممّا أمكَنَ أن يسمّى "نمطَ الإنتاجِ السياسي". هؤلاءِ سيكونُ عليهِم أنْ يجدوا سبُلاً أخرى لكسبِ معاشِهِم. يزيدُ من صحّةِ ذلكَ أنّ كثيراً من المراكزِ في هذا "القطاعِ" المتضخّمِ وُجدَت لمجرّدِ الارتزاقِ وأنّ كثيراً من العاملينَ فِيهِ تبدو عليهم سيماءُ الطفيليّة. من الطبيعيِّ أن توجَدَ، من الجهةِ الأخرى، ضماناتٌ مانعةٌ للتمييزِ تحُولُ دونَ إنكارِ أو ابتسارِ الحقوقِ التي يمْنَحُها لجماعةٍ أو طائفةٍ وزنُها الذاتيُّ غيرُ المستعار، وخصوصاً ما وقَعَ من هذه الحقوقِ في جهازِ الدولةِ وفي مؤسّساتِها السياسيّةِ والاجتماعيّة. ويعرَّفُ الوزنُ هَهُنا على النحوِ الموافقِ لروحيّةِ التشريعِ الديمقراطيِّ ويُستمدّ من مواردِ الجماعةِ المختلفةِ: من أوضاعِ نُخَبِها ومن حجمِها الديمغرافيِّ ومن دورٰها في اقتصادِ البلادِ، إلخ.، ومن تطوّرِ هذا كلِّهِ من مرحلةٍ إلى مرحلة. فإنّ التسليمَ المتمادي بهذا أو ذاك من الانحرافَيْنِ وإقفالَ الأبوابِ أمام تصحيحِهِ، على ما اعتادَ نظامُ الطائفيّةِ السياسيّةِ أن يفعلَ، ينتهي، عاجلاً أو آجلاً، إلى انتشارِ رياحِ التفكّكِ والخرابِ في الجماعةِ الوطنية. ولقد باتَ مُلِحّاً، في ظَرْفِ الأزْمةِ الفظيعةِ الجاريةِ، أن يبادرَ جمهورُ الضحايا إلى رفْضِ الوقوعِ أو الإقامةِ في أيٍّ من المحذورَيْنِ المُدَمِّرَيْن.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Ge en gåva på Patreon
Fler sätt att engagera sig

Sök