ليس للكردي إلا العرس
لقمان ديركي:مواليد الدرباسية شمال شرق سوريا. عاش في الدرباسية وحلب ودمشق. كتب الشعر والقصة والمقالات. عمل في مجالات الشعر والمسرح والتلفزيون والصحافة. يعيش في فرنسا.
لقمان ديركي
يبدأ العرس الكردي في سوريا عادة في إحدى الصالات أو في الهواء الطلق منذ غروب الشمس لاستغلال الوقت بكامله. ويتحلق الشباب والفتيات في الدبكة الكردية "الكورمانجي" أو "الشيخاني" حسب الموسيقى التي يسمعونها ويرقصون، وعادة ما يبدأون بالشيخاني كنوع من التحمية.
بعد قليل ستكتشف أن هناك عريفاً للحفل، وستكون لهذا العريف صولات وجولات على مسرح العرس هذا، يبدأ العريف بإلقاء بعض القصائد الكردية للشعراء الأكراد المعروفين، ثم يلقي بعض النكات، ويقدم لنا بعد ذلك الفقرة الأولى من برنامجه، وهي تشبه برنامج سوبر ستار إلى حد كبير. إذ أن هواة الموسيقا الأكراد لا يجدون مكاناً يقدمون فيه إمكاناتهم للجمهور سوى العرس، وتصعد الفرقة الهاوية الأولى، والمكونة عادة من عازف بزق أو أكثر، وضابط إيقاع ومطرب، ولكي تأسر الفرقة قلوب الجماهير وتكسب أصواتهم فإن أعضاءها يبدأون بالأغاني الوطنية التي تتغنى بكردستان بشكل عام، وبالحزب الذي تنتمي إليه الفرقة بشكل خاص، وبشهداء الحزب بشكل أكثر خصوصية. ثم نرى عريف الحفل من خلف الكواليس يشير إلى الفرقة أن تنهي فقرتها، ولكن المطرب يغمزه كي يتركه يتابع وصلته الغنائية... ويتابع الغناء بحرارة متجاهلاً عريف الحفل الذي يتأهب كي ينهي الفقرة قسراً. وما إن تنتهي الأغنية حتى ينقض عريف الحفل على الميكروفون منهياً فقرة الهواة الأولى وهو يشتم عاداتنا وتخلفنا في عدم احترام المواعيد غامزاً من قناة الفرقة، يقرأ عريف الحفل قصائد أخرى ويحكي قصصا فولكلورية ثم يقول: "إخوتي وأخواتي الأعزاء... هناك بعض الشباب يحبون أن يقدموا لكم مسرحية". وهنا تبدأ الوصلة المسرحية من العرس.
يصفق الجمهور، ويظهر الممثل الأول سكراناً مترنحاً وشريراً، وتأتي أمه البسيطة ولكن الوطنية وتلومه لأنه يسكر ويشرب ولأنه غير وطني أيضاً، ولكن الشاب يهزأ من أمه بحركات كوميدية، فيدخل والده غاضباً ويطرده من المنزل، وهناك خارج المنزل يتعرف "الأزعر" على "الرفاق"، فيستوعبونه ويهذبونه ويثقفونه حتى يتغير تماماً، بل ويلتحق بالمقاتلين الأكراد في الجبال، وفي المشهد الأخير يصل خبر استشهاده إلى الأب فيشعر بالفخر والإعتزاز قليلاً قبل أن يلقي خطاباً رجولياً، بينما تزغرد الأم كالعادة فرحاً بالشهادة أو النصر وهي تصفع طفلاً صعد من الصالة إلى المسرح بالخطأ.
يصعد عريف الحفل ويقدم لنا هذه المرة شاعراً، يصعد الشاعر، وتكون هيئته مختلفة قليلاً توحي باللامبالاة، ولكنه يثبت التزامه في قصيدته الطويلة، كما أنه يكشف طرف الدفتر للجمهور كي يشاهدوا الحروف اللاتينية التي كتب بها قصيدته الكردية، فهذه الحروف دلالة على التطور والحداثة، إن الشاعر القديم يكتب بالحروف العربية، أما الحديث فيكتب بالحروف اللاتينية، وما إن ينتهي الشاعر منزعجاً بسبب إشارات عريف الحفل له بالاختصار حتى يرمق الجمهور بنظرة احتقار وداعية ويخرج وسط تصفيق "الرعاع".
بعد ذلك، يقدم لنا عريف الحفل شخصاً مهماً يريد أن يقول شيئاً مهماً، لقد جاء دور السياسة أو المؤتمر الحزبي، يلقي الرجل المهم خطابه على منصة العرس، وفي غمرة الحماسة الخطابية يتراكض على المسرح الأطفال الذين يرسلهم أهاليهم "الموالون لحزب آخر" للتشويش على الخطيب.
كل هذا والعروس لم تحضر بعد، وكذلك العريس، ولكن العروسين لن يحرما من متعة مشاهدة ما حدث على جهاز الفيديو صباح اليوم التالي مذهولين من عمليات "المونتاج" التي قام بها المصور بأن يظهر العروس في قلب وردة أو يرسم قلباً حولها... إلى آخره من ضروب الإبهار الكردي المونتاجي.
يصل العروسان ويجلسان على المسرح وسط الزغاريد وبمرافقة موسيقى "ضربات القدر" أو غيرها لبتهوفن أو موزار للدلالة على الرقي، وهنا يظهر المطرب الحقيقي الذي سيحيي هذا العرس، وكم ستكون المفاجأة كبيرة عندما نعرف أن بعض المطربين الذين يظهرون في الأعراس الكردية هم من كبار الفنانين الأكراد الذين لا يجدون غير الأعراس مكاناً ومسرحاً لتقديم أغانيهم.
لكن للأعراس مطربوها الأصليون، وأشهرهم "صلاح رسول" أو "صلاحو" كما ينادونه، وهو عازف بزق من الطراز البهلواني الذي يجبر الجميع على الرقص لا شعورياً، حتى أن أئمة الجوامع في القامشلي، طلبوا منع الاعراس التي يعزف فيها "صلاحو" قرب الجوامع، كي لا يتأثر المصلون بعزف.
وفي حمى الرقص "الكورمانجي" يبدأ "البوب" الكردي، فيظهر الشبان الباحثون على المتعة والسهر الذين لا يجدون مكاناً للهوهم، فلا ملهى ليلياً ولا ديسكوتيك ولا "بوب"... فأين المفرّ؟!.. إلى العرس طبعاً، ويدخل الراقصون غير المدعوين أصلاً في الحلقة الكبيرة ويرقصون، ولا يعكر صفو متعتهم شيء. الكل ينغمس في الحلقة البهيجة حتى يرتفع صوت المطرب بموال حزين عن "مجزرة حلبجة"، لا تعرف كيف خطر في باله أن يغنيه، فتبكي العروس، ويبكي العريس، ويخيم الحزن على وجوه الجماهير، ولكن المطرب يعود إلى أغنية جديدة، فيعود الراقصون معه بحركات أجسادهم الحماسية وأصواتهم المتعالية وكأن شيئاً لم يكن.
وهكذا، نكتشف أهمية العرس الكردي التاريخية في سوريا، فإذا أردتَ أن تؤرشفَ تاريخ الحركات الكردية السياسية والثقافية والفنية فعليك أن تكتب: بدأ الشاعر الكبير فلان الفلاني حياته الشعرية بإطلاق قصيدته الأولى عام كذا "في عرس فلان الفلاني"، أو أقام الحزب الفلاني مؤتمره الثاني في عرس فلان الفلاني في مدينة الدرباسية أو بدأت هذه الفرقة الموسيقية بتقديم أول أعمالها في مدينة القامشلي في عرس فلان، إنه العرس، ما من مكان آخر مسموح له بتحقيق كل هذا للكردي الذي يعيش في سوريا، ليس للكردي إلا العرس.