استشهاد
باسمة التكروريمواليد القدس عام 1982، حيث عاشت وعملت حتى غادرت إلى الولايات الأمريكية للدراسة عام 2014. انتقلت للإقامة في مونتريال، كندا، في عام 2017. صدرت روايتها الأولى "مقعد الغائبة" عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين، عام 2001. درست الأدب الإنجليزي وعلم الإجتماع في جامعة بيت لحم، كما وحصلت على درجة الماجستير في الإعلام من كلية لازيل، في ولاية ماساشوستس عام 2016. نشرت باسمة التكروري ثلاث كتب للأطفال مع مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، كما ونشرت مع المؤسسة ذاتها كتابا بعنوان يوميات تحت الاحتلال، والذي تمت ترجمته للفرنسية ونشره عن دار لاكورت إيشيل في مرسيليا عام 2006. وفي عام 2009 صدرت روايتها "عبور شائك" الفائزة بمنحة نشر من مؤسسة نكست بيج، عن دار البيرق العربي، رام الله. تُرجمت كتاباتها إلى الإنجليزية والسويدية والفرنسية والكورية ونشرت في عدد من المجلات وكتب المختارات الأدبية. باسمة ا
لتكروري
نظر إلى خط الدم الذي تسارع في تعرج مبتعدا عن وجهه. أقلقه شعور بالدغدغة أسفل فمه امتد بشكل أحاره حتى آخر عنقه. بدت كفه بعيدة. كأنها فقدت اتصالها بجسده. شيء ما حدث، ولا بد. شعر بيد تزيح طرف نظارته عن وجهه. حينها فقط، انتبه لعمامته تتدحرج ببطء على البلاط الحجري. كيف لم يدرك من قبل أن بلاط الطريق بهذا اللمعان والصفاء. لا شيء يتحرك في جسده اللعين، فكر. بدأت وجوه تقترب من وجهه، تتحسس عنقه، تزيح رقبته. الدغدغة زادت. "لا زال يتنفس..". بالطبع يفعل. "يوجد نبض، لكنه متسارع.". أحس بفلفل يشوي أنفاسه فيما حاول أخذ نفس عميق. سعل فامتلأ حلقه بالدم. كاد يتقيأ إذ غاص أنبوب بلاستيكي في حلقه. "اهدأ يا شيخ". "اهدأ بحيات والديك، نريد فتح مجرى التنفس". تمنى لو تمكن من الكلام. شعر بحلقه جافا وغارقا كأنما مات اختناقا وعيناه لم تفارقا الحياة بعد. انتفض. خرج عنه أنين خافت كلما حاول قول شيء. "أنا أيمن إبن الحج جهاد سعيدة، متزكرني؟". بالطبع يذكره. "لكن لماذا تعبث بحلقي يا أيمن هداك الله، قال في رأسه، وهو يقاوم ارتجاع معدته ورفضها للبلاستيك الذي أحس به يحفر طريقه في بلعومه.
فجأة تذكر. أراد أن يضرب جبهته بيده كما يفعل كلما نسي أمرا. ماذا سيحدث لها. سعاد. شعوره الغريب بالسلام رغم تعاظم حجم بركة الدم حوله أخافه. تلك السكينة. كلما حاول أن يتخيل آخر ساعة عاشها سعيد ينزف قرب بناية البنك الأهلي في عمان، أقنع نفسه أن سكينة ما غطت جسده. ظل متأكدا أن روحه انسالت بهدوء مع الدم الذي أغرق مقعده وكتف أبو الوليد الذي مال عن مقود سيارته ليسنك رأس سعيد. قيل له أنه كان مع سعيد في نفس الخلية. واظبت سعاد على زيارة قبره كلما نزلت إلى عمان كأنما كان ولدها الآخر. كان يكره أن يراها تلطم وجهها وهي تبكي وجعه ووحدته في موته. إذ مات أبو الوليد قبله بساعة. تلك التفاصيل الصغيرة التي بحثت فيها واستجوبتها حتى آخر رمق. تذكر يوم أحست بالخطر يداهم سعيد. كل رصانة تحضيرها الأوتوماتيكي للسفر القصير إلى عمان أو الشام، تاهت، وهي تلف قطعة ملابس واحدة، وعلبة سجائرها لا غير. وتهرع نحو الهاتف. "بدي أطلب الأوتومبيل". طبعا لم تكن أي "أوتومبيل" لتذهب إلى عمان يومها. انقطع تفكيره بها وبسعيد بهجمة وجع شرسة كأنما حولت صدره لسكاكين تنغرز في قلبه. كان يسمع شهقات أيمن، وتتابع أنفاسه هو وزميله فيما نقلاه بما استطاعاه من قوة على الحمالة.
"فتفتوه، الله ينتقم منهم بس". تبددت سكينته مع الوجع، كأنما خرج من قمقم. شعر بحرقة بالغة في عينيه وأنفه. أنفه الذي سال هو الآخر بتدفق حارق غريب. هجم الصوت على أذنيه مرة واحدة كما يشتغل مذياع على حين غرة. تنافرت وتعاظمت الصرخات. اختلطت بأصوات زخات الرصاص وقنابل الغاز. دوى وقع البساطير على الأرض في أذنيه مسببا طنينا فاق احتماله. أراد أن يمسك رأسه ويصرخ. "عمامتي". خرجت عنه الكلمة كأنها همهمة تركتور ديزل عتيق. لم يفهم أي من الشابين المتوترين أيا من همهماته، لكنه علق نظره بعمامته، فانتبه أيمن، تردد قليلا. كل ثانية في هذا الجنون إما أن تكسبها لروح الشيخ، أو تترك روحه تنتفض خارجة منه. حسم أيمن أمره جازما أنه قد يكون آخر طلب للمسكين في حياته. ركض تجاهها، التقطها وعاد مسرعا لا يعرف كيف يتجنب الراكضين في كل الاتجاهات، والأحجار والأحذية وقطع الخشب التي كانت تشتبك مع الجنود المدججين والرصاص الذي لم يميز هدف ركضه من ركض الآخرين.
نظر إلى أيمن برضى، ثم إلى عمامته وقد تكورت فوق صدره. هبط عليه نعاس ثقيل. حاول التركيز أكثر على الباب الخشبي الأخضر، قبل أن يشعر بجسده يتخضخض فوق الحمالة. بدا له المشهد حميميا وهم يخرجون به من باب الأسباط، أراد أن يلوح للأشبال الحجرية المتحلقة على باب السور القديم. بدت كما لو لوحت له. انغم باله إذ ظهرت أمامه شواهد مقبرة باب الرحمة وهم يرفعون جسده ويدخلونه سيارة الإسعاف. ترك جسده لنومه متهربا من صورته وهو يدخل جسد سعيد إلى الفستقية. لم يعرف حينها لم شعر بجسده أكثر خفة وطراوة مما تخيله. انهالت على رأسه صورة رسالة سعيد التي لم يتلفها، ودسها بين الكتب. سيموت ولا بد. تقول له أوجاعه المتعاظمة بلا هوادة ذلك. ستجلس سعاد على طرف سريرها، فيما يفتش أحفاده كتبه، ويلقون كل دفاتر خطبه وكتاباته في القمامة. تراءت له صغرى حفيداته. شيء ما أكد له وطمأنه. لن ينتبه للرسالة غيرها. ولن تصل أي كلمة فيها لسعاد. كانت إحدى رسائل سعيد الطويلة. ليس فيها ما يختلف عن باقي الرسائل التي أتلفها، لكن الذنب الذي لفه من ساسه لرأسه حين قرأها قبل أن يرمي بها في سطل الماء كغيرها، أوقفه. كانت أولى الرسائل. العتب الطازج فيها هزه. والسخرية، تلك الكلمات اللاذعة التي تخرمش القلب، أوجعته.
لم يدر لم انتفض من جديد. قفز الدم من فمه وشعر بروحه تقفز معه. ضربت عينه على شباك سيارة الاسعاف الخلفي. أدرك أنه وصل جبل الزيتون حيث المستشفى. شيء ما مس قلبه. لابد أنها لم تعد بعد من المدرسة. كل الطلاب الأولاد كانوا قد تركوا الفصول ليعتصموا في ساحات الحرم. كان سيأخذها عصر اليوم لمكتبته كما اعتاد. لم تزل رزمتها على طاولته. لم تتم عامها الثاني قبل أن يفاتح سعاد بما يساوره. "عينيها، فيها روح سعيد". كلما سألت، كلما تاهت في غياهب خيالاتها. كلما فرحت بكتاب من كتبه، لمع سعيد في عينيها.
لا يعرف لم ابتسم دون داع. غادره الخوف. كأنما لن يترك شيئاً خلفه. لم يرد أن يفتح عينيه. بدى له أنه إذ أبقاهما مرتاحتين في سكينته فقد اختار التواطؤ مع هذا القدر. كل خطبه عن الموت وملك الموت ولحظة الرحيل، كلها بدت له كنكتة. لم يستطع وقف الضحك الذي تسلل من تحت الأنبوب البلاستيكي، ولا الدمع الذي دفف من تحت رموشه. "له يا حج!". خرجت الجملة عن أيمن المسعف محتجة بلطف على الضحك. فزادته الجملة ضحكا. كل شيء قاله على المنبر عن الموت، كل سؤال أجابه عن النهايات، مر في رأسه فأضحكه أكثر. لفه خليط من العطف والحب والشفقة، فأشعره بدفء مريح. "السكينة". قال لنفسه، فيما رأى نفسه يقبل رأس عجوزه، سعاد، قبل سويعات خارجا. "إزا ما جبتش معك قضامة اليوم ترجعش". عاد الضحك يباغته مع دمع أكثر يخالطه بعض النشيج.
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"... "الله يتغمدك بواسع رحمته يا شيخ" ... كانوا يزيلون الأنبوب، فيما بقي ضحك يتأرجح في الغرفة بين شفتيه العجوزين ورموشه المبتلة.