أن تزور لبنان بعد ثورة وانفجار وانهيار
تصادف اليوم الذكرى السنوية لحدوث الإنفجار الكبير في ميناء بيروت. والذي راح ضحيته أكثر من ٢٠٠ إنسان بينما فقد الكثيرون منازلهم وأصبحوا بلا مأوى. مجلة نادي القلم السويدي الإلكترونية طلبت من الصحفية بيسان الشيخ كتابة مقال حول انطباعاتها الشخصية عن بيروت والأزمات التي تعصف بها وكيف رأتها حين عادت إليها بعد ذلك الحدث المأساوي.
بيسان الشيخ صحافية وكاتبة لبنانية, مقيمة في اسطنبول.
عملت في صحيفة "الحياة" اللندنية بين 2001 و 2018 كمراسلة ميدانية متخصصة في التغطيات المعمقة والتحقيقات الاستقصائية وتغطية الحروب والنزاعات في منطقة الشرق الاوسط, ثم كاتبة مقال سياسي.
صدر لها بالاشتراك مع حازم صاغيه كتاب "شعوب الشعب اللبناني: مدن الطوائف وتحولاتها في زمن الحرب السورية", الساقي, 2014.
كتبت وأنتجت فيلمين وثائقيين بعنوان "طريق المهاجرين" (لبنان, 2014), و"إيمان وسناء, توأما القاعدة" (المغرب, 2010).
منذ مطلع 2020 هي عضو هيئة تحرير في مؤسسة "أريج" للصحافة الاستقصائية.
"إسألي هناك. أنا مش من المنطقة, أنا من المخيم" أجابني الصياد بلهجة فلسطينية قحة, واشاح بنظره عني نحو فلوكات الصيد الصغيرة الراسية في الميناء الرث على تخوم مخيم نهر البارد في أقصى الشمال اللبناني. استوقفني تعريف الشاب بأنه "ليس من المنطقة", وشعوره بأن المخيم بعيد لهذه الدرجة فيما نحن عملياً على رمية حجر منه وتكاد خيالات أبنيته تنعكس على مياه المتوسط أمامنا.
التفت إلى صيادين آخرين يعالجون شباكهم اسأل عن شبكة قد يريدون االتخلص منها, وقيل لي إنها الحل الامثل لصد الافاعي عن حديقة منزلنا الريفي حيث أعتكف منذ شهرين تقريباً, هو تاريخ عودتي للبنان بعد غياب قسري دام سنة ونصف.
عند ذلك المرفأ حاول صياد صرفي عنه بأن قال إنهم توقفوا عن رمي الشباك القديمة أو بيعها لأنها اصبحت باهظة, وباتوا يعيدون خياطتها وإصلاحها ما أمكن فيصطادون بها حتى الرمق الاخير. نظر صياد منهم الى زوجي الذي رافقني في ذلك الصباح وقدم له خلاصة حديث طويل لم يجر "هذا ما جنته دولتك علينا". ضحك الاخير بإرباك وتمتم "دولتي؟ ليت ما اقترفته يقتصر على هذا". تنبه الصياد حينذاك الى لهجة زوجي السورية, فمضت علينا برهة صمت بددناها بأن أسرعنا الخطى نحو مجموعة صيادين أخرى لعلنا نجد ما نبحث عنه.
كان يمكن لحادثة صباحية كهذه أن تعبر كغيرها من عشرات الحوادث الصغيرة التي صادفتني منذ عودتي لولا أنها بدت لي سينمائية أو مفتعلة حتى بتوقيتها, لشدة ما هي تكثيف درامي لأحوالنا وأهوالنا.
سوري وفلسطيني ولبنانية عند ميناء حدودي بائس عالقون في تخليص شباك متهالكة. فجأة تيقنت إن المخيم بعيد, بعيد جداً, وأبعد منه غزة التي تتعرض للقصف في هذه الاثناء. وسورية التي على المقلب الآخر من الطريق تبايع جلادها في مهزلة "انتخابية"... لكن دع عنك سورية. نحن الآن في بقعة تداخلت فيها لهجاتنا ومصائرنا كأننا, نحن الثلاثة, في مشهد تمثيلي من أحد تلك المسلسلات الهجينة الدارجة.
نحن الآن في لبنان الذي لن يطعمنا سمكاً ولن يصد عنا الافاعي.
كنت قد غادرت بيروت للإقامة في اسطنبول منذ نحو خمس سنوات لم انقطع خلالها عن الزيارة كما كان الحال بي هذه المرة.
صحيح إن الاسباب المباشرة لهجرتي ذاتية محضة، إلا انها تزامنت للصدفة مع منعطفات كثيرة شهدها لبنان على كافة المستويات, وأهمها بالنسبة لي على الاقل, مهنتي. فقد شهدت السنوات الاخيرة إغلاق صحف ووسائل إعلام شكلت وجه لبنان و"رسالته" لعقود مضت. فبعدما كانت بيروت ملجأ الكتاب والصحافيين والمثقفين من كافة البلدان العربية, منذ سبيعنات القرن الماضي, اضمحلت وانكفأت الى شؤون تكاد تكون مناطقية/ طائفية ضيقة. ولئن استقبلت بيروت اخيراً كتاباً ومثقفين وصحافيين وفنانين سوريين وقبلهم وان بدرجة اقل عراقيين, إلا ان الافق السياسي الضيق أطبق عليهم كما علينا. فباتت الاعتقالات والمطاردات الامنية وتلفيق التهم بالعمالة والتخوين وكم افواه بشتى الوسائل حتى الاغتيال (آخر الضحايا لقمان سليم مثلاً) هي ما ترد به سلطة الامر الواقع على اي رأي او توجه مخالف. وإذا ما فكرت بانعكاس ذلك علي، لا يسعني إلا أن أدرك أنني منذ نحو سنتين أو اكثر لم اكتب او أنشر حرفاً واحداً بالمعنى المهني وخارج سياق وسائل التواصل الاجتماعي أو بعض التدوين من هنا وهناك. شعرت أنه لشدة الغضب والسخط في داخلي ولكثرة ما لدي قوله, ما عدت أعلم كيف أعبر أو من اين ابدأ, وإن كان ثمة جدوى من الكتابة أصلاً في مواجهة كل هذا التفلت العام وانسداد الافق السياسي برمته.
كثيراً ما استحوذ علي سؤال: ماذا يعني أن نكتب أو ننتج راياً أو تحليأ أو نتقصى معلومة في زمن كهذا؟ ليس يأساً بقدرما هو سؤال عن الجدوى... وليس حالة فردية أو شخصية بقدما هو شأن عام وهم مشترك مع عدد من الاصدقاء والصديقات إذ تفكر في مستقبل مهنتنا وبلدنا ومآلات أدوات عملنا وتعبيرنا ومعارضتنا او مقاومتنا "غير العنفية".
للمفارقة إن اسطنبول التي رحلت اليها تحولت الى ملجىء المعارضين الهاربين من بطش الانظمة و"الثورات المضادة" إبان الربيع العربي. وفي مرحلة من المراحل كانت اسطنبول تعج بكثيرين ممن كنت ستلتقيهم في مقاهي بيروت وعلى ارصفتها وتتبادل معهم أطراف حديث يحفزك فكرياً ويحرك فيك رغبة بالنقاش والسجال والانتاج. لكن هنا ايضاً تكفل الوقت والسياسة والروابط الحزبية/ الدينية العابرة للحدود بتطويع كثيرين ودفع آخرين الى التماهي مع السلطة... أو الهجرة نحو ضفاف أرحب.
ليس سهلا أن تعود إلى بلدك وقد شهد ثورة, وتفجيراً وانهياراً في زمن قياسي. وفوق ذلك وباء قضى على كل شكل من اشكال الحياة التي ألفتها. سنة ونصف كانت اشبه بـ "تسونامي" على البلد وناسه بحيث يبدو كل ما عداه من احداث صغيراً, عابراً, قابلاً للتجاوز.
الثورة التي خفقت لها قلوبنا, معاكسة عقولنا واحباطاتنا من السنوات العشرة الاخيرة لم يبق منها هنا, عند هذا المرفأ ومحيطه من دكاكين باعة السمك ومحال تصليح السيارات إلا خربشات جدران لطختها شحوم المولّدات وبصاق الصيادين. قبضة الثورة, أو شعارها الذي رفع في الساحة القريبة محاكياً ما يجري في بيروت, ومتحدياً سلطة جائرة لطالما استسهلت اطلاق الرصاص الحي على صدور المتظاهرين في هذه المنطقة, اختفى بدوره خلف ملصقات اعلانية وانتخابية بالية. يبدو ذلك الوقت غائراً في الزمن أكثر مما هو عليه فعلياً.
حتى بيروت التي عزلت نفسي عنها, ولم ازرها إلا مرة فما بقي فيها من الثورة ومشهدها ليس أقل إيلاماً وقسوة سواء في صفائح الحديد المدعّم على واجهات المحال التجارية والمصارف في وسط المدينة أو في آثار طلقات الرصاص على أطراف الابنية. كل ذلك يعيد تذكرك إن بعض تلك الطلقات استقر في أعين الشباب والشابات المتظاهرين, وصدورهم, ومستقبلهم.
وإلى ذلك, تبدو الثورة وشعاراتها وآمالها واحباطاتها, هرمة ومستهلكة مقارنة بالحدث المؤسس الآخر, الصدمة الابرز وهي التفجير الذي دمر وشظّى اكثر من نصف المدينة. كل من تلتقيه يعيدك بالحديث الى شعور الغفلة لحظة سماع دوي التفجير الاول, فالصدمة مع دوي الثاني, ثم الادراك والهلع والركض لتفقد الجروح واحصاء الاضرار وانقاذ ما يمكن إنقاذه... وصدفة النجاة. تلك الصدفة التي جعلت كثيرين عالقين فيها يأرجحون بين يوفوريا ورهاب وذنب تعرفه جيداً أنت المستمع والمراقب من بعيد. ذنب لمجرد أنك كنت غائباً حين جرى كل ذلك. لكن ليس لك ان تجترّ مشاعرك الكثيفة تلك وتمعن في جلد النفس قدرما شئت طالما إنك تقوم بذلك بصمت مطبق.
عبثاً حاولت في زيارتي السريعة لبيروت أن أبحث عن أمكنتي و"نقاط العلام" في حياتي السابقة. شعرت فجأة انني أمي وهي تحدثني عن مقهى "الهورس شو" في شارع الحمرا حين كنت صغيرة. كنا لسنوات عديدة, كلما مررنا بالمكان, الذي تغيّر مراراً على وعيي تعود تذكر لي المكان بصفته "الهورس شو" الذي عرفته هي في سنواتها الجامعية ما قبل الحرب. لا بل إذا أرادت ان تواعدني في الشارع تنقلت بينه وبين "المودكا" على الناصية المواجهة. أنا اليوم مثلها. أمسكني من يدي وأعبر الشارع متحدثة بثقة كبيرة عن أمكنة غافلتني واندثرت بسنة. سنة واحدة. أيعقل؟
كأن المدينة باتت طيف ذاتها. المحال الصغيرة أو المطاعم التي بقي بعضها يعمل خلال أعتى سنوات الحرب الاهلية, أقفل ابوابه الى غير عودة. تقارير عن أطباء يهاجرون المشافي بأعداد هائلة, الصيدليات فرغت من الادوية والمحال التجارية الكبرى تشهد تقنيناً على السلع الاساسية. حتى مكتب البريد فرغ من الطوابع. طوابير السيارات امام محطات الوقود تعيدك الى زمن كنت تظنه قد ولى وادبر. يؤلمك أن تسمع مراراً وتكراراً إن الحال كان افضل بما لا يقاس خلال الحرب.
يعيدني المشهد العام ونظرات المارة والاصدقاء الى مطلع التسعينات ونهاية الحرب الاهلية. الانهاك سمة الامكنة والوجوه. حيوات تحاول ترميم ذاتها على انقاض وأطلال. كأن الغبار هو القاسم المشترك بين الاشياء والطاغي على بقية الالوان. لكن آنذاك كان ثمة أمل بأن حياة أفضل ربما تنتظرنا. بأن الحرب خلفنا, وان غداً لا شك يوم آخر.
... ثم هناك الفصام.
الفصام اللبناني الشهير بـ "حب الحياة". تلك القدرة الغريبة على الانكار والمضي قدما ًاو ربما مجرد التقوقع في فقاعة والادعاء بأن الامور بخير. وهذا تجده بوفرة في منتجعات بحرية وجبلية وبيوت ضيافة صغيرة فاخرة انتعشت في الفترة الاخيرة خارج بيروت والمدن الرئيسية وأتاحت لشريحة من اللبنانيين ممن لا يزالون يتقاضون رواتبهم بالعملة الصعبة, متنفساً أوصدته المطارات العالمية مع الجائحة.
في بلد مثل لبنان قد يبدو هذا التناقض عادياً وراسخاً. فهو قد شكل وعياً مجتمعياً مضطرباً وكاذباً بالقدرة الخارقة على التحدي والاستمرار وغير ذلك مما درجت تسميته بالـ "resilience". كلمة تختزل ادعاءات وتغذي صورة مضخمة عن النفس وتحرم طالب العون من فرصه طلبه. كلمة تنحاز للقوة والجبروت على حساب الضعف والالم. والأمرّ إنها تغدق علينا شرقاً وغرباً في سياق مديحنا والتعبير عن حبنا عوضاً عن منحنا فرصة للعق جراحنا والتعافي.
ولكن للأمانة فإن هذه التناقضات نفسها كانت لتبدو لي أنا ايضاً عادية لو أنني ما زلت مقيمة هنا. لا بل كنت ربما سأحتاجها لأتمكن من الاستيقاظ صباحاً والاستمرار في نهاري, واستيعاب ما يجري من حولي. كنت ساعبر بذلك المرفأ والمخيم المحاذي له من دون أن يستوقفني فيه الكثير. أما الآن فأنا أغالب عجزي عن استيعاب ما يحدث من حولي وغيره الكثير مما لا تحتمله هذه السطور.
فكل ما أعلمه الآن أنني اقف على رصيف ميناء بائس وبعيد احدق في البحر وأنتظر صيادا يمنحني شبكة.
بيسان الشيخ