
الكتابة كوسيلة للصُمود أثَناء الحرب
لقد مرَّ عامان منذ اندلاع الحرب في الخرطوم في 15 أبريل 2023. الخرطوم هي عاصمة البلاد التي وُلدتُ، وتَرعرَعتُ، ودَرَست، وأنجَبتُ فيها، وهاجرت منها قبل ثلاثة أعوام. اتسعت هذه الحرب لتشمل أجزاء من البلاد لم يَختَبِر سكّانها الحرب يوماً ما بشكلٍ مباشر. بالطبع منهم من اختبرها وتوجَّهوا للخرطوم، فكانت هي، ومدن أخرى، ملاذاً نزحوا إليه عندما كانت حروب أخرى تلتهم قراهم، فكان لهم أن ينزحوا للمرة الثانية، أو الثالثة..إلخ.
لماذا أذكر هذه المعلومات بهذه الدقة!؟ لأن للحرب أعماراً مختلفة باختلاف بقاع السودان، وبالنسبة لي هي ذات الحرب التي اندلعت من قبل في الجنوب، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، قبل أكثر من أربعين عاماً، ومن ثمَّ زَحَفت إلى دارفور قبل أكثر من عشرين عاماً. وصولها إلى الخرطوم ما كان إلّا تتويجاً لسيطرة العنف الشامل ليس إلا، والتي لم تتعامل معها الحكومات المركزية بالحكمة اللازمة.
ما أريد قوله هو، إن السودان كان دائماً في حالة حرب قبل عشرات السنين، ولكنها لم تأخذ صفة "حرب السودان" قط. حتى الآن، عندما وصلت قلب العاصمة "المركز" واشتعلت فيها.
في السابق، كانت الحرب تُسمى بالجهات كحرب الجنوب، وحرب جبال النوبة، وحرب دارفور.. إلخ. الحروب الطرفية التي تصدرها هذا المركز نفسه، مما أَوهَم مواطني العاصمة والأقاليم الآمنة بأنها أمر يحدث بعيداً عنهم ولا تعنيهم بالضرورة.
بالنسبة لي ككاتبة، كنتُ، ومازلت، مشغولة بهذا التاريخ الدمويّ؛ لم أستطع الهرب من رؤية الصورة الكبيرة للحرب، أصفها كخريطة عنف متحركة وكل مرة تحتل أمكنة جديدة. كيف أنها اندلعت في القرن الماضي في قرية صغيرة في أقصى جنوب الجنوب، ثم أخذت تتمدد كبقعة زيت على صفيح ساخن، إلى أن غطَّتها بالكامل.
من هنا جاء شغفي بالكتابة، لجعل البقية يرون ما أراه، يرون وحش الحرب وهو آخذ في النموّ بوضوح. كنتُ أشكِّل من الكلمات لأروي عشرات القصص، التي تحمل وجه الحرب القبيح، وأفضح فعله العنيف. تماماً كما يجمع الأطفال بصبرٍ تلك الأجزاء الصغيرة في لعبة "البازل" للحصول على صورة وحيدة، واضحة، لحيوانٍ ما أو أحجية مصوّرة، مكتملة، ومفهومة في الآخر.
أكرِّس كتابتي من أجل هذا، على الأقل حتى أُكمل القصة. أكتب لأنني لم أعد أحتمل حياة النسيان والنكران التي يعيشها السودانيون لتعود الحرب كلّ مرة، ويتفاجؤون، كأنها حرب جديدة. "عندما أقول السودانيون أعني جميعهم في الجنوب والشمال"، هذه أيضاً واحدة من المعضلات التي أتعرَّض لها بعد أن انقسم السودان إلى سودانين بعد حرب طويلة، جعلت التعايش في وطن واحد مستحيلاً. لابد أذكرهما معاً لأزيل اللبس كأنني أتحدث عن السودان فقط. لأن استقلال جنوب السودان لم يحرِّره من تاريخ العنف، بل أخذوا معهم أدوات صناعته واستمروا في إعادة إنتاج حروبهم الخاصة كما يحدث الآن في السودان من غير جنوبه.
قلتُ إنني أكتب لأنّي لم أعد أحتمل حالة النسيان. السياسيون يتعاملون مع الأزمات كطوارئ ليس لها امتدادات في الماضي. والمواطنون يتعاملون مع الحروب كقطع معزولة مُبعثرة، لذا يجيدون سلوك قلب الصفحات.
ربما تكون ممارسة النسيان أيضاً نوع من التحايل للاستمرار!؟ ربما!
عندما اندلعت الحرب في السودان عام 2023 كنت أكتب وبشراهة، وأعمل على التحرير النهائي لروايتي التاريخية الثانية عن حرب أخرى حدثت عام 1983.
اخترت كتابة الماضي وتوثيق ما حدث في ذاك الوقت، بينما كان الحاضر على وشك الاشتعال. حتى داهمتني حرب 15 أبريل 2023.
شعرتُ بالمأزق؛ حيث يجب أن أصنع حدوداً صارمةً ما بين حرب دائرة الآن على أرض الواقع، وحربٌ أخرى كانت تدور في صفحات روايتي.
حاولتُ أن أبقى متيقِّظة، وواعية، حتى لا أخلط بين أحداث الحربين، الفرق بينهما أكثر من أربعين عاماً.
كثيراً ما وَقعتُ في حيرة، حيث أصبح هناك خطاً واهياً ما بين الخيال والواقع. لأن الحروب تتشابه في أفعالها. مشاهد المدن المُدمَّرة، واللاجئين، والقتل الوحشي، والسماء المخنوقة بالدخان، والأكاذيب التي يرددها المقاتلون في المعسكرات. كلها تتشابه.
فتحول فعل الكتابة إلى نوع من الألم المضني وواجب ثقيل. حيث نضطر، لكلّ واحدٍ، للخوض في الذاكرة، ليوقظ ضحايا المذابح بعد أن شبعوا موتاً من فعل الحروب القديمة التي لم تحظَ بأي نوع من المخاطبة السياسية أو العدلية. فكنت أكتب بحذرٍ شديدٍ، كمن يتجول في حقل ألغامٍ خوفاً من أن تنفجر تحت قلمي، وأنا، ألتقط الحروف حرفاً حرفاً، وأرص الكلمات جنباً إلى جنب، لوصف قبح الحرب، حتى أتفادى حرباً جديدة.
توقَّفت عن الكتابة عندما اندلعت حرب أبريل. كأنني قرَّرت أن أعيش حرباً واحدةً، مشفقةً على قلبي.
ولكن رغم كل ذلك كان لابد أن أستمر، لم يكن في الإمكان أن أترك تلك الأرواح التي أيقَظتُها لأمنح لهم عدالةً ما، عدالة أنهم غير منسيين. وفي ذات الوقت، قد يمنح ما أكتبه حكمةً ما للحاضر المُنسَاق خلف الماضي، بلا ذرّة تفكير.
الكتابة في زمن الحرب وعن الحرب، نوع من إعادة فتح جروح الماضي، ومحاولة شفائها بسكب دواء شديد المرارة حارق عليها، بينما بدأت جراح جديدة تنزف.
كنت أكتب من أجل مواجهة الماضي، ولكنها كانت، في ذات الوقت، كتابة من أجل رفض الحاضر الذي يعيد تكرار الماضي بغباءٍ محير. الحاضر الآن ما هو إلّا صورة من الماضي فقط، انعَكَسَت في بقاعٍ أخرى، واختار ضحايا آخرين، وأسلحة جديدة شديدة الفتك.
أثناء هذا كله، لاحظت عشرات الكاتبات والكتاب الذين انشغلوا بالكتابة. في العام السابق وحده أصدرت العديد من دور النشر عشرات المطبوعات الجديدة من مؤلفين سودانيين/ جنوب سودانيين. في الرواية والقصة والشعر والدراسات والنقد أيضاً. رُشِّحت عدد منها لجوائز إقليمية وعالمية. كأن القلم كان في سباق مع آلة الحرب.
تحاول الكتابة أن تبعث الحياة حتى في الموتى المنسيين وتضعهم في منصة الشهود.
نكتب لتبيين الفرق بين الحياة الطبيعية وحالة الحرب. فالحرب، مهما طالت، لن تحظى بصفةِ "الطبيعية". لأن وجود حرب، في حدّ ذاته، هو نوع من خروج التاريخ عن مساره مما يربك الطبيعي.
الحرب طارئة مهما جثمت عشرات السنوات على صدر أمةٍ ما. فهي تخلق نوعاً من الأحوال الطارئة حولها.
كأننا نلجأ إلى أمكنة أخرى، ونعيش في أزمنة سحيقة غابت فيها الدولة، فنضطر إلى التنظيم من جديد لتوفير لقمة العيش، ونعيش في جماعات حتى نحمي بعضنا، ونتجاور، مع أناس طارئين مثلنا، في جغرافيات لم تطأها أقدامنا من قبل.
هذه السنوات الطارئة هي ما تحاول الكتابة التقاطه. لحفظ ذكرى الحنين إلى الحياة الطبيعية حيث يتمتع الجميع بالسلم.
في اعتقادي هذه الغزارة في الإنتاج الأدبي، وكأنه نوع من التسلّح لمقاومة الحرب، هو نوع من المرونة الضرورية لحماية المستقبل حتى لا تُنقَل غلّ هذه الحرب/الحروب إلى الأجيال القادمة.
في قمة هزيمة الإنسان نلجأ للكتابة. الكتابة نوع من اللجوء أيضاً. بالكتابة نضع الخلود في مواجهة الإبادة. والصدور العارية في مواجهة الرصاص، عسى أن تهديها نبضاً، وتخبرها عن حلاوة الحياة.
لذا أصبحت الكتابة هي الداعم الوحيد الذي منعنا من الوقوع في أتون اليأس، وساعدتنا على تجاوز نوبات الفزع ومشاعر العجز والأحزان.
أعانتنا على تحمّل عزلة المنافي والملاجئ، ومن خلالها نقول ها نحن ذا، مازلنا هنا نمثِّل الأوطان الجريحة، وبإصداراتنا نؤكد أننا لم ننس، ولن ننس.
لطالما كانت الكتابة هي رفيقتنا الحانية، التي تَجبُر بخواطرنا وتمنحنا نوعاً من المواساة!
الكتابة، بالنسبة لي، أكثر من مجرد رص للكلمات، بل المنقذ الأخير الذي ألجأ إليه في أشد لحظات يأسي ورعبي.
عندما تحتدم الأزمات حولي، فلا يلهيني عنها سوى الجلوس للكتابة. أمام شاشة شديدة الإضاءة حتى يغشى بصري كي لا أرى العتمة التي تتنامى حولي. أحتمي بها من شرور الخارج كسماع الأنباء المفجعة، ووقوفي عاجزة أمامها. فهي تجعلني أُفرِّغ غضبي، حزني وإحباطاتي، بشكلٍ متزن نوعاً ما. وتذكرني بمهمتي ككاتبة.
في الحالة الآنية، أكاد أن أُلخِّص مهمتي في لفت الانتباه لمأساة الحرب، واستقطاب المزيد من المتضامنين مع القضايا الإنسانية والكارثة التي نمر بها.
لم يسعفني الوقت والمسافة لقراءة إصدارات زملائي/زميلاتي الكتاب أثناء هذه الحرب. ولكن أكاد أجزم بأنها لا تخلو من مواضيع الحرب وآثارها، والحنين والحب اليائس بين إنسان وإنسان، وبين إنسان ووطن قاسي، ومتى تنتهي!؟ نعم جميعنا في انتظار أن تنتهي هذه الحرب، ولكن كيف ومتى؟ لا أدري.
من الصعب أن أعمِّم سبب كتابتنا بغزارة في هذا الوقت بالذات، وتلهّفنا على نشر أعمالنا، حتى الكتاب الذين لا يميلون إلى نشر أعمالهم بدأوا في فعل ذلك، حتى ولو بنشر أعمالهم القديمة.
ولكن بشكل عام أستطيع أن أقول إن الكتابة أصبحت فعلاً نوع من المرونة لمواجهة ما يمرّون به الآن من عنف، والذي صار يحدث أمام عيونهم، أصبحوا الشهود والضحايا المباشرين. هذا العنف المنتشر الذي يتعرّض له أقرب الأقربين لهم، وينعون رحيل بعضهم بصورة وحشية على صفحات التواصل الاجتماعي. كل هذا يخبرنا أن هذه الحرب لم تعد أخباراً تُنقل عن الآخرين، بل أصبحت حدثاً هم متورطون فيه بشكلٍ أو آخر. لأن تلك الجثث لم تعد جثث أناسٍ غرباء لا يهمهم أمرهم، وتلك الدماء، التي تجري على الأراضي السودانية، منافسة فيضان النيل، لم تعد دماء غريبة؛ فهي دماء إخوتهم المغدور بهم، أو بناتهم وأمهاتهم المُغتَصَبَات، وأصدقاءهم القتلى وجيرانهم الذين خطفهم القصف، أناس يعرفون وجوههم وأسماءهم.
عندما تسميهم الأخبار ضحايا، نسميهم نحن أبطالاً وشهداء. عندما تسميهن التقارير ضحايا العنف الجنسي، نعطيهم نحن صفة الناجيات. وعندما نسمع عن تبعثر أعضائهم ولحومهم بسبب قذيفةٍ أو قصفِ طيران حربيّ، نُسمّيهم حمائم سلام، ملأوا قبة السماء، مُحلِّقين باحتجاج.
وعندما يقولون الأطفال يموتون جوعاً، نقول إنهم رفضوا الطعام احتجاجاً على الجوع الذي يضرب جنوب العالم، رغم خصوبة الأراضي وكثرة الأنهار، فقط لو توقّفت النزاعات!
هكذا نتحايل ونلتفّ حول حقيقة الكارثة الفعلية: فالكتابة تمنحنا فرصة لإعادة ترتيب الأشياء، ابتداءً بأرواحنا التي يتقاذفها الحزن والقلق على مما زالوا هناك، محاصرين بين مخالب هذه الحرب.
عندما كنت أكتب كانت هناك أيضاً كتابات طازجة، تَبرُز هنا وهناك، مُوثِّقةً لأهوال الحرب. مَنحَت الحرب الجميع القدرة على التعبير. فالحروب السابقة لم تحظَ بالكثير ممن يتحدثون عنها بكثافة ودقة كما حظيت هذه الحرب. فالحروب السابقة، رغم قسوتها وطول أزمانها، حَظِيَت بأصواتٍ قليلة ومنخفضة للغاية.
أكاد أقول لزملائي/زميلاتي الكتاب والمعلقين على صفحات التواصل الاجتماعي بتلك الكتابات الباذخة عن فظائع الحرب: أنتم لا تكتبون عن الحرب الحالية فقط، بل تكتبون عن حروب قديمة أيضاً، لم تحظ من قبل بزخم الكتابة.
إذا كانت الحرب تقويضاً للسلام بكل أنواعه، فالكتابة حرب ضد الحرب، الكتابة حرب من أجل البقاء والصمود، وإبقاء الدماء المُهدَرة دافئةً تُثَرثِر في أُذن حَمَلَة السلاح، عما جدوى مجانية القتل هذا!؟
كلما كتبنا أكثر أبقينا الذاكرة متّقدة بالمشاهد، كلّما عبرنا عمَّا يحدث بدمنا، بهذا الحبر الحي ا لأحمر، ربما أورث هذا حكمة ما في المستقبل القريب، لنُشكِّل موقفاً موحداً ضدَّ الحرب /الحروب.
أعتقد هذا ما تعنيه الكتابة بالنسبة لي منذ أن بدأت أُزاوج بين الكلمات والأحداث الدامية. لا أنسى فضل الكتابة، هي زوَّدتني بنوعٍ من المرونة لامتصاص المأساة، والتعايش معها حتى أستطيع مقابلة من هم حولي بابتسامة مُشرِقة.
أكتب أعنف المشاهد، وأحياناً أنهار باكيةً أثناء ذلك، مما يعني أنني أعترف بالوقائع التي حدثت وتحدث الآن.
للحرب قوة مُدمِّرة، ربما تكون فرصة النجاة الوحيدة هي قبول حدوثها، والاعتراف بأننا عاجزون عن تفادي كل ما ينتج عنها، ليبقى ما نكتبه ندبةَ بارزةَ في الذاكرة تحكي كل شيء.
لقد مرَّ عامان منذ اندلاع الحرب في الخرطوم في 15 أبريل 2023. الخرطوم هي عاصمة البلاد التي وُلدتُ، وتَرعرَعتُ، ودَرَست، وأنجَبتُ فيها، وهاجرت منها قبل ثلاثة أعوام. اتسعت هذه الحرب لتشمل أجزاء من البلاد لم يَختَبِر سكّانها الحرب يوماً ما بشكلٍ مباشر. بالطبع منهم من اختبرها وتوجَّهوا للخرطوم، فكانت هي، ومدن أخرى، ملاذاً نزحوا إليه عندما كانت حروب أخرى تلتهم قراهم، فكان لهم أن ينزحوا للمرة الثانية، أو الثالثة..إلخ.
لماذا أذكر هذه المعلومات بهذه الدقة!؟ لأن للحرب أعماراً مختلفة باختلاف بقاع السودان، وبالنسبة لي هي ذات الحرب التي اندلعت من قبل في الجنوب، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، قبل أكثر من أربعين عاماً، ومن ثمَّ زَحَفت إلى دارفور قبل أكثر من عشرين عاماً. وصولها إلى الخرطوم ما كان إلّا تتويجاً لسيطرة العنف الشامل ليس إلا، والتي لم تتعامل معها الحكومات المركزية بالحكمة اللازمة.
ما أريد قوله هو، إن السودان كان دائماً في حالة حرب قبل عشرات السنين، ولكنها لم تأخذ صفة "حرب السودان" قط. حتى الآن، عندما وصلت قلب العاصمة "المركز" واشتعلت فيها.
في السابق، كانت الحرب تُسمى بالجهات كحرب الجنوب، وحرب جبال النوبة، وحرب دارفور.. إلخ. الحروب الطرفية التي تصدرها هذا المركز نفسه، مما أَوهَم مواطني العاصمة والأقاليم الآمنة بأنها أمر يحدث بعيداً عنهم ولا تعنيهم بالضرورة.
بالنسبة لي ككاتبة، كنتُ، ومازلت، مشغولة بهذا التاريخ الدمويّ؛ لم أستطع الهرب من رؤية الصورة الكبيرة للحرب، أصفها كخريطة عنف متحركة وكل مرة تحتل أمكنة جديدة. كيف أنها اندلعت في القرن الماضي في قرية صغيرة في أقصى جنوب الجنوب، ثم أخذت تتمدد كبقعة زيت على صفيح ساخن، إلى أن غطَّتها بالكامل.
من هنا جاء شغفي بالكتابة، لجعل البقية يرون ما أراه، يرون وحش الحرب وهو آخذ في النموّ بوضوح. كنتُ أشكِّل من الكلمات لأروي عشرات القصص، التي تحمل وجه الحرب القبيح، وأفضح فعله العنيف. تماماً كما يجمع الأطفال بصبرٍ تلك الأجزاء الصغيرة في لعبة "البازل" للحصول على صورة وحيدة، واضحة، لحيوانٍ ما أو أحجية مصوّرة، مكتملة، ومفهومة في الآخر.
أكرِّس كتابتي من أجل هذا، على الأقل حتى أُكمل القصة. أكتب لأنني لم أعد أحتمل حياة النسيان والنكران التي يعيشها السودانيون لتعود الحرب كلّ مرة، ويتفاجؤون، كأنها حرب جديدة. "عندما أقول السودانيون أعني جميعهم في الجنوب والشمال"، هذه أيضاً واحدة من المعضلات التي أتعرَّض لها بعد أن انقسم السودان إلى سودانين بعد حرب طويلة، جعلت التعايش في وطن واحد مستحيلاً. لابد أذكرهما معاً لأزيل اللبس كأنني أتحدث عن السودان فقط. لأن استقلال جنوب السودان لم يحرِّره من تاريخ العنف، بل أخذوا معهم أدوات صناعته واستمروا في إعادة إنتاج حروبهم الخاصة كما يحدث الآن في السودان من غير جنوبه.
قلتُ إنني أكتب لأنّي لم أعد أحتمل حالة النسيان. السياسيون يتعاملون مع الأزمات كطوارئ ليس لها امتدادات في الماضي. والمواطنون يتعاملون مع الحروب كقطع معزولة مُبعثرة، لذا يجيدون سلوك قلب الصفحات.
ربما تكون ممارسة النسيان أيضاً نوع من التحايل للاستمرار!؟ ربما!
عندما اندلعت الحرب في السودان عام 2023 كنت أكتب وبشراهة، وأعمل على التحرير النهائي لروايتي التاريخية الثانية عن حرب أخرى حدثت عام 1983.
اخترت كتابة الماضي وتوثيق ما حدث في ذاك الوقت، بينما كان الحاضر على وشك الاشتعال. حتى داهمتني حرب 15 أبريل 2023.
شعرتُ بالمأزق؛ حيث يجب أن أصنع حدوداً صارمةً ما بين حرب دائرة الآن على أرض الواقع، وحربٌ أخرى كانت تدور في صفحات روايتي.
حاولتُ أن أبقى متيقِّظة، وواعية، حتى لا أخلط بين أحداث الحربين، الفرق بينهما أكثر من أربعين عاماً.
كثيراً ما وَقعتُ في حيرة، حيث أصبح هناك خطاً واهياً ما بين الخيال والواقع. لأن الحروب تتشابه في أفعالها. مشاهد المدن المُدمَّرة، واللاجئين، والقتل الوحشي، والسماء المخنوقة بالدخان، والأكاذيب التي يرددها المقاتلون في المعسكرات. كلها تتشابه.
فتحول فعل الكتابة إلى نوع من الألم المضني وواجب ثقيل. حيث نضطر، لكلّ واحدٍ، للخوض في الذاكرة، ليوقظ ضحايا المذابح بعد أن شبعوا موتاً من فعل الحروب القديمة التي لم تحظَ بأي نوع من المخاطبة السياسية أو العدلية. فكنت أكتب بحذرٍ شديدٍ، كمن يتجول في حقل ألغامٍ خوفاً من أن تنفجر تحت قلمي، وأنا، ألتقط الحروف حرفاً حرفاً، وأرص الكلمات جنباً إلى جنب، لوصف قبح الحرب، حتى أتفادى حرباً جديدة.
توقَّفت عن الكتابة عندما اندلعت حرب أبريل. كأنني قرَّرت أن أعيش حرباً واحدةً، مشفقةً على قلبي.
ولكن رغم كل ذلك كان لابد أن أستمر، لم يكن في الإمكان أن أترك تلك الأرواح التي أيقَظتُها لأمنح لهم عدالةً ما، عدالة أنهم غير منسيين. وفي ذات الوقت، قد يمنح ما أكتبه حكمةً ما للحاضر المُنسَاق خلف الماضي، بلا ذرّة تفكير.
الكتابة في زمن الحرب وعن الحرب، نوع من إعادة فتح جروح الماضي، ومحاولة شفائها بسكب دواء شديد المرارة حارق عليها، بينما بدأت جراح جديدة تنزف.
كنت أكتب من أجل مواجهة الماضي، ولكنها كانت، في ذات الوقت، كتابة من أجل رفض الحاضر الذي يعيد تكرار الماضي بغباءٍ محير. الحاضر الآن ما هو إلّا صورة من الماضي فقط، انعَكَسَت في بقاعٍ أخرى، واختار ضحايا آخرين، وأسلحة جديدة شديدة الفتك.
أثناء هذا كله، لاحظت عشرات الكاتبات والكتاب الذين انشغلوا بالكتابة. في العام السابق وحده أصدرت العديد من دور النشر عشرات المطبوعات الجديدة من مؤلفين سودانيين/ جنوب سودانيين. في الرواية والقصة والشعر والدراسات والنقد أيضاً. رُشِّحت عدد منها لجوائز إقليمية وعالمية. كأن القلم كان في سباق مع آلة الحرب.
تحاول الكتابة أن تبعث الحياة حتى في الموتى المنسيين وتضعهم في منصة الشهود.
نكتب لتبيين الفرق بين الحياة الطبيعية وحالة الحرب. فالحرب، مهما طالت، لن تحظى بصفةِ "الطبيعية". لأن وجود حرب، في حدّ ذاته، هو نوع من خروج التاريخ عن مساره مما يربك الطبيعي.
الحرب طارئة مهما جثمت عشرات السنوات على صدر أمةٍ ما. فهي تخلق نوعاً من الأحوال الطارئة حولها.
كأننا نلجأ إلى أمكنة أخرى، ونعيش في أزمنة سحيقة غابت فيها الدولة، فنضطر إلى التنظيم من جديد لتوفير لقمة العيش، ونعيش في جماعات حتى نحمي بعضنا، ونتجاور، مع أناس طارئين مثلنا، في جغرافيات لم تطأها أقدامنا من قبل.
هذه السنوات الطارئة هي ما تحاول الكتابة التقاطه. لحفظ ذكرى الحنين إلى الحياة الطبيعية حيث يتمتع الجميع بالسلم.
في اعتقادي هذه الغزارة في الإنتاج الأدبي، وكأنه نوع من التسلّح لمقاومة الحرب، هو نوع من المرونة الضرورية لحماية المستقبل حتى لا تُنقَل غلّ هذه الحرب/الحروب إلى الأجيال القادمة.
في قمة هزيمة الإنسان نلجأ للكتابة. الكتابة نوع من اللجوء أيضاً. بالكتابة نضع الخلود في مواجهة الإبادة. والصدور العارية في مواجهة الرصاص، عسى أن تهديها نبضاً، وتخبرها عن حلاوة الحياة.
لذا أصبحت الكتابة هي الداعم الوحيد الذي منعنا من الوقوع في أتون اليأس، وساعدتنا على تجاوز نوبات الفزع ومشاعر العجز والأحزان.
أعانتنا على تحمّل عزلة المنافي والملاجئ، ومن خلالها نقول ها نحن ذا، مازلنا هنا نمثِّل الأوطان الجريحة، وبإصداراتنا نؤكد أننا لم ننس، ولن ننس.
لطالما كانت الكتابة هي رفيقتنا الحانية، التي تَجبُر بخواطرنا وتمنحنا نوعاً من المواساة!
الكتابة، بالنسبة لي، أكثر من مجرد رص للكلمات، بل المنقذ الأخير الذي ألجأ إليه في أشد لحظات يأسي ورعبي.
عندما تحتدم الأزمات حولي، فلا يلهيني عنها سوى الجلوس للكتابة. أمام شاشة شديدة الإضاءة حتى يغشى بصري كي لا أرى العتمة التي تتنامى حولي. أحتمي بها من شرور الخارج كسماع الأنباء المفجعة، ووقوفي عاجزة أمامها. فهي تجعلني أُفرِّغ غضبي، حزني وإحباطاتي، بشكلٍ متزن نوعاً ما. وتذكرني بمهمتي ككاتبة.
في الحالة الآنية، أكاد أن أُلخِّص مهمتي في لفت الانتباه لمأساة الحرب، واستقطاب المزيد من المتضامنين مع القضايا الإنسانية والكارثة التي نمر بها.
لم يسعفني الوقت والمسافة لقراءة إصدارات زملائي/زميلاتي الكتاب أثناء هذه الحرب. ولكن أكاد أجزم بأنها لا تخلو من مواضيع الحرب وآثارها، والحنين والحب اليائس بين إنسان وإنسان، وبين إنسان ووطن قاسي، ومتى تنتهي!؟ نعم جميعنا في انتظار أن تنتهي هذه الحرب، ولكن كيف ومتى؟ لا أدري.
من الصعب أن أعمِّم سبب كتابتنا بغزارة في هذا الوقت بالذات، وتلهّفنا على نشر أعمالنا، حتى الكتاب الذين لا يميلون إلى نشر أعمالهم بدأوا في فعل ذلك، حتى ولو بنشر أعمالهم القديمة.
ولكن بشكل عام أستطيع أن أقول إن الكتابة أصبحت فعلاً نوع من المرونة لمواجهة ما يمرّون به الآن من عنف، والذي صار يحدث أمام عيونهم، أصبحوا الشهود والضحايا المباشرين. هذا العنف المنتشر الذي يتعرّض له أقرب الأقربين لهم، وينعون رحيل بعضهم بصورة وحشية على صفحات التواصل الاجتماعي. كل هذا يخبرنا أن هذه الحرب لم تعد أخباراً تُنقل عن الآخرين، بل أصبحت حدثاً هم متورطون فيه بشكلٍ أو آخر. لأن تلك الجثث لم تعد جثث أناسٍ غرباء لا يهمهم أمرهم، وتلك الدماء، التي تجري على الأراضي السودانية، منافسة فيضان النيل، لم تعد دماء غريبة؛ فهي دماء إخوتهم المغدور بهم، أو بناتهم وأمهاتهم المُغتَصَبَات، وأصدقاءهم القتلى وجيرانهم الذين خطفهم القصف، أناس يعرفون وجوههم وأسماءهم.
عندما تسميهم الأخبار ضحايا، نسميهم نحن أبطالاً وشهداء. عندما تسميهن التقارير ضحايا العنف الجنسي، نعطيهم نحن صفة الناجيات. وعندما نسمع عن تبعثر أعضائهم ولحومهم بسبب قذيفةٍ أو قصفِ طيران حربيّ، نُسمّيهم حمائم سلام، ملأوا قبة السماء، مُحلِّقين باحتجاج.
وعندما يقولون الأطفال يموتون جوعاً، نقول إنهم رفضوا الطعام احتجاجاً على الجوع الذي يضرب جنوب العالم، رغم خصوبة الأراضي وكثرة الأنهار، فقط لو توقّفت النزاعات!
هكذا نتحايل ونلتفّ حول حقيقة الكارثة الفعلية: فالكتابة تمنحنا فرصة لإعادة ترتيب الأشياء، ابتداءً بأرواحنا التي يتقاذفها الحزن والقلق على مما زالوا هناك، محاصرين بين مخالب هذه الحرب.
عندما كنت أكتب كانت هناك أيضاً كتابات طازجة، تَبرُز هنا وهناك، مُوثِّقةً لأهوال الحرب. مَنحَت الحرب الجميع القدرة على التعبير. فالحروب السابقة لم تحظَ بالكثير ممن يتحدثون عنها بكثافة ودقة كما حظيت هذه الحرب. فالحروب السابقة، رغم قسوتها وطول أزمانها، حَظِيَت بأصواتٍ قليلة ومنخفضة للغاية.
أكاد أقول لزملائي/زميلاتي الكتاب والمعلقين على صفحات التواصل الاجتماعي بتلك الكتابات الباذخة عن فظائع الحرب: أنتم لا تكتبون عن الحرب الحالية فقط، بل تكتبون عن حروب قديمة أيضاً، لم تحظ من قبل بزخم الكتابة.
إذا كانت الحرب تقويضاً للسلام بكل أنواعه، فالكتابة حرب ضد الحرب، الكتابة حرب من أجل البقاء والصمود، وإبقاء الدماء المُهدَرة دافئةً تُثَرثِر في أُذن حَمَلَة السلاح، عما جدوى مجانية القتل هذا!؟
كلما كتبنا أكثر أبقينا الذاكرة متّقدة بالمشاهد، كلّما عبرنا عمَّا يحدث بدمنا، بهذا الحبر الحي ا لأحمر، ربما أورث هذا حكمة ما في المستقبل القريب، لنُشكِّل موقفاً موحداً ضدَّ الحرب /الحروب.
أعتقد هذا ما تعنيه الكتابة بالنسبة لي منذ أن بدأت أُزاوج بين الكلمات والأحداث الدامية. لا أنسى فضل الكتابة، هي زوَّدتني بنوعٍ من المرونة لامتصاص المأساة، والتعايش معها حتى أستطيع مقابلة من هم حولي بابتسامة مُشرِقة.
أكتب أعنف المشاهد، وأحياناً أنهار باكيةً أثناء ذلك، مما يعني أنني أعترف بالوقائع التي حدثت وتحدث الآن.
للحرب قوة مُدمِّرة، ربما تكون فرصة النجاة الوحيدة هي قبول حدوثها، والاعتراف بأننا عاجزون عن تفادي كل ما ينتج عنها، ليبقى ما نكتبه ندبةَ بارزةَ في الذاكرة تحكي كل شيء.